الحب لحظة الاختيار

 

 

 

عندما تريد أن تقارن شيئا بشيء، فلا بد أن تكون عارفا بقدر كل منهما وقيمته، وإلا فإن المقارنة ستكون غير مبنية على أسس سليمة.

والتمايز في المعرفة ينتج تمايزا في التعامل وفي اتخاذ القرار واختيار الأنسب والأمثل. ما الذي يجعل ابن أبي الحديد يتوقف كثيرا عند نص من نصوص نهج البلاغة حتى يقول:

"و أقسم بمن تقسم الأمم كلها به لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسين سنة و إلى الآن أكثر من ألف مرة ما قرأتها قط إلا و أحدثت عندي روعة و خوفا و عظة و أثرت في قلبي وجيبا و في أعضائي رعدة، و لا تأملتها إلا و ذكرت الموتى من أهلي و أقاربي و أرباب ودي و خيلت في نفسي أني أنا ذلك الشخص الذي وصف حاله. و كم قد قال الواعظون و الخطباء و الفصحاء في هذا المعنى و كم وقفت على ما قالوه و تكرر وقوفي عليه فلم أجد لشيء منه مثل تأثير هذا الكلام في نفسي." ويقول عن نفس النص الذي قاله أمير المؤمنين بعد تلاوته (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ . حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ )؛ يعلق ابن أبي الحديد بقوله:

و ينبغي لو اجتمع فصحاء العرب قاطبة في مجلس و تلى عليهم أن يسجدوا له كما سجد الشعراء لقول عدي بن الرقاع: قلم أصاب من الدواة مدادها. فلما قيل لهم في ذلك قالوا إنا نعرف مواضع السجود في الشعر كما تعرفون مواضع السجود في القرآن.
أقول: لو لم يكن ابن أبي الحديد من أصحاب المعرفة بفنون البلاغة والفصاحة، هل كان يمكنه أن يقدر هذا النص حق قدره؟ الجواب: لا، بالتأكيد.
من هنا نفهم سر تفضيل نبي الله يوسف عليه السلام للسجن على الاستجابة للغرائز والشهوات، رغم الألم هناك واللذة هنا. (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ).

ونفهم أيضا المقارنة التي يجريها الإمام زين العابدين عليه السلام بين الذل مع الثروة من جهة والعز بدونها من جهة أخرى.، وبين الحلم والغضب الانفعالي. يقول : مَا أُحِبُ أَنَّ لِي بِذُلِّ نَفْسِي حُمْرَ النَّعَمِ، وَ مَا تَجَرَّعْتُ مِنْ جُرْعَةٍ أَحَبَ إِلَيَّ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ لَا أُكَلِّمُ فِيهَا صَاحِبَهَا.

وكذلك سؤاله لأحدهم سؤال المعلم: أَيُّمَا أَحَبُ إِلَيْكَ: صَدِيقٌ كُلَّمَا رَآكَ أَعْطَاكَ بَدْرَةَ دَنَانِيرَ، أَوْ صَدِيقٌ كُلَّمَا رَآكَ بَصَّرَكَ بِمَصِيدَةٍ مِنْ مَصَائِدِ الشَّيَاطِينِ، وَ عَرَّفَكَ مَا تُبْطِلُ بِهِ كَيْدَهُمْ، وَ تَخْرِقُ [بِهِ] شَبَكَتَهُمْ، وَ تَقْطَعُ حَبَائِلَهُمْ قَالَ: بَلْ صَدِيقٌ كُلَّمَا رَآنِي عَلَّمَنِي كَيْفَ أَخْزِي الشَّيْطَانَ عَنْ نَفْسِي وَ أَدْفَعُ عَنِّي بَلَاءَهُ.

وفي نفس السياق نقرأ للنبي يحيى بن زكريا عليهما السلام قوله: الموت أحب الى من نظرة بغير واجب. وللنبي داوود عليه السلام قوله: تَرْكُ لُقْمَةٍ مَعَ الضَّرُورَةِ إِلَيْهَا أَحَبُ إِلَيَ مِنْ قِيَامِ عِشْرِينَ لَيْلَةً.
إننا بحاجة ماسة لمعرفة قيمة من نحب وما نحب حتى لا نخطئ التقدير ساعة الخيارات الصعبة.

دمتم بحب.. جمعة مباركة.. أحبكم جميعا.

شاعر وأديب