نظرة فاحصة

 

 

 

 

مشكلة الإنسان الكبرى والمزمنة هي سوء التقدير، أي عدم إعطاء الأشياء أو الأشخاص أو الأفكار حجمها الحقيقي.
فتراه مختل التوازن بين الإفراط والتفريط، أو بحسب التعبير القرآني: ﴿وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا.

فهو لا يقدر الله حق قدره، ولا يقدر الأنبياء والمرسلين والأئمة والعلماء والمصلحين حق قدرهم، ولا يقدر الأفكار العظيمة والأشياء المقدسة حق قدرها، فيقع في تخبط شديد في سلوكه نتيجة غفلته عن هذا الأمر الهام.

القرآن الكريم والروايات الشريفة تضع الإنسان أمام حقائق الأشياء كي يعيد الإنسان ترتيب حياته وأولوياته. فمعرفة الأولويات مهم جدا في إدارة الحياة القصيرة الفانية بنجاح يتجلى نعيما في الدار الباقية.
يقول الحق تعالى مستنكرا الحب الخاطئ الناتج من التقدير الخاطئ:﴿كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ (21) سورة القيامة.

وفي حديثه عن الدنيا يقوم القرآن بإعادة صياغة مفاهيمنا عنها حتى نفهمها حق فهمها فلا يأخذنا الغرور بها إلى مهالك الردى:﴿ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) سورة غافر.

بالطبع لا يكفي أن نعرف هذه الحقيقة، بل لا بد من تذكير النفس الدائم بها وتلقينها إياها حتى تصير إلى درجة عميقة من الرسوخ في النفس بحيث لا تؤثر فيها المغريات والهزاهز.

عمر بن سعد كان يعرف أن الدنيا زائلة، ولكنه في اللحظة المصيرية تهاوى أمام إغراء ملك الري العاجل على النعيم الآجل، أو الدين ( بفتح الدال ) لضعف يقينه، فقال معبرا عن سوء تقديره، :

ألا إنما الدنيا بخير معجل ** فما عاقل باع الوجود بدَين

حين نمر على موقف ابن سعد فإنه ينبغي علينا تأمله بعمق مع مساءلة صريحة للنفس عن مدى قدرتها على عدم الوقوع في الفخاخ المنصوبة لها التي تريد إشغالها بالعاجل الفاني على حساب الآجل الباقي.

إننا حين نقوم بارتكاب الذنوب والمعاصي والآثام في حق الله وحق النفس وحق الآخرين، نفعل ذلك في لحظة شبيهة بلحظة اختطاف عقل عمر بن سعد دون أن نشعر بذلك.

والظالمون والمجرمون على مدى التاريخ إنما يفعلون ما يفعلون من قتل وسجن وتعذيب ونفي وتشريد للآخرين لأنهم يظنون أن الدنيا هي نهاية المطاف حتى وإن لم يقولوا ذلك بألسنتهم.

ولذلك نراهم يحرصون على متاعها أشد الحرص، فكلهم متمسك بكرسيه وعرشه وملكه ومستعد لعمل أي شيء في سبيل الحفاظ على السلطة التي هي غايته العظمى.

تستوقفني كثيرا هذه الآية كلما مررت عليها:﴿وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (54) سورة يونس.

فهي تتحدث عن فرضية ممتنعة لتضعنا أمام حقيقيتين هامتين هما: حقارة الدنيا وبشاعة الظلم وآثاره. ففي يوم القيامة لو ملكت كل نفس - مهما بلغت قوة احتمالها للعذاب – كل ما في الأرض لقدمته فداء لها. ولكن أنى لها ذلك، فما لها هنالك سوى الندامة المكبوتة خوف الشماتة ومزيد الإهانة. إنها لا تخاف ظلم الله تعالى بل تخاف عدله وقسطه.

وهناك آية أخرى تتحدث عن فدية أكبر يتمنى الظالمون لو يستطيعون تقديمها لتخليصهم من سوء العذاب؛ وهي تساوي ضعفي الفدية الأولى:
﴿وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ(47) سورة الزمر.

في يوم القيامة تبدو الحقائق كما هي، وتنكشف سوءات سوء التقدير، حين يرى الإنسان أن المال والسلطان والجاه وغيرها لا قيمة لها في ميزان الله إلا ما وضع منها في موضعه الصحيح.

ومن هنا نستطيع أن نفهم القسم العظيم الذي أقسمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مستنكفا أن يصدر منه أدنى ظلم لأنه يدرك تماما قيمة الدنيا وبشاعة الظلم وقيمة الآخرة:
واللهِ لوْ أُعْطِيتُ الأقاليمَ السَّبْعَةَ بما تَحْتَ أفلاكها عَلَى أنْ أعصِي اللهَ في نملةٍ أسلُبُها جِلْبَ شعيرةٍ مَا فَعَلْتُ.

كيف يمكن لإنسان أن يرفض القيام بعمل بسيط في ظاهره تجاه مخلوق في غاية الصغر والضعف (نملة) يسلبها شيئا تافها (جلب شعيرة) أي القشرة الرقيقة التي تغلف حبة الشعير، على أن تكون المكافأة له على ذلك العمل ملك الدنيا بأسرها؟
كيف يستطيع إنسان أن يقاوم هذا العرض المغري جدا؟

إنه إنسان من نوع خاص يعطي كل شيء قدره الحقيقي، ولذا حاز مقام العصمة لأنه خاف مقام ربه – بعد أن عرفه حق معرفته - ونهى النفس عن الهوى.

إننا نحتاج بالفعل إلى التفكير مليا في تقديرنا للأمور لنعرف إلى أين نحن صائرون.

شاعر وأديب