حتى لا تكتشف الطائفية متأخراً

 

 

 

 

"لم يعتبر المسلمون من تاريخ صراع الطوائف الدينية والملل والنحل في تاريخ أوربا في الديانة النصرانية , ولم يستفيدوا من قراءتهم وتدبرهم للقرآن العظيم الذي حذرهم من التفرق , ولم يتأكدوا بعد أن السياسة تلعب دورًا هاماً ورئيساً في صناعة الطائفية , رغم التاريخ الدموي والواقع المزري في تأجيج صراعات الملل والنحل بين المسلمين" من مقال بعنوان الطائفية وتاريخ الدم للكاتب عبد العزيز السويد في جريدة المدينة السعودية.

المخاض الذي مرت به أوروبا حتى استقرت على حالها الراهن كان عسيرا جدا، فقد خاضت حروبا مريرة بين أتباع الديانة المسيحية من الطائفتين الكاثوليكية والبروتستانتية، كان أشهرها حرب الثلاثين عاما التي امتدت بين عامي 1618 م و 1648 م، والتي أتت على الأخضر واليابس، فانتشرت الأمراض والمجاعات، وانخفض عدد السكان بشكل فظيع حتى وصل إلى الثلثين في بعض المناطق وإلى الثلث في أخرى كما في الأراضي التشيكية وألمانيا، فقد تقلص سكان ألمانيا إلى ثلاثة عشر مليونا ونصف المليون بعد أن كان عشرين مليونا.

وفي الأخير اكتشفت أوروبا أنها تسير في الطريق الخطأ، وأن السياسي قام بتوظيف الديني خدمة لمصالحه وأغراضه، فليس شيء أدعى للبقاء من تحشيد الناس على أساس طائفي، تستنفر فيه كل الغرائز ويغيب فيه العقل، كل ذلك باسم الدين والطهارة والنقاء.

الاكتشاف تم بفضل نخبة من التنويريين الأوروبيين وتضحياتهم التي قدموها ليعيدوا أوروبا إلى رشدها ويخرجوها من أتون الجنون الطائفي. كان بإمكانهم أن يسايروا الواقع، بل وأن يساهموا في تأجيجه وتصعيد أزماته، ولكنهم قرروا أن يقفوا مع ضميرهم ومع الإنسان بما هو إنسان بصرف النظر عن طائفته وملته، فأسسوا مفهوم المواطنة الحديثة القائم على المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات مهما تنوعت هوياتهم الفرعية، ونجحوا بالتالي في إرساء دولة القانون والحرية والمساواة، والتي أوصلت ولو بعد حين ( هيلموت كول ) الذي ينتمي للأقلية في بلاده إلى أعلى منصب في ألمانيا وليمكث أطول فترة في المستشارية، وليكون له الدور الكبير في توحيد ألمانيا.

لا يخفى على أحد ما نعاني منه من في عالمنا الإسلامي عموما، والعربي خصوصا، من ارتفاع منسوب الخطاب الطائفي بتداعياته المختلفة التي تتدرج من الموقف النفسي السلبي حتى تبلغ المدى الأخير في الموقف العدائي السلوكي حيث تفجير الكنائس والمساجد والحسينيات ودور العبادة وقتل الأبرياء على الهوية الدينية.

كما لا يخفى على العارفين أن صعود هذا الخطاب ما كان ليتم لولا وجود المقتضي وارتفاع المانع كما يقول المناطقة. أما المقتضي فهو ضمان استمرار المصالح الضيقة التي ينتفع أصحابها من الصراعات الطائفية، وأما المانع المرتفع أي الغائب عن الساحة فهو الوعي بكل تجلياته، فلا تزال النظرة للآخر المختلف محكومة بقوالب نمطية وأحكام مسبقة ناجزة وغير قابلة للزحزحة أو التغيير، ولا يزال الدين أسير تصوراتنا الضيقة التي لا تليق به كدين عالمي جاء لتحرير الناس، ليضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.

ما ينبغي إدراكه قبل فوات الأوان أن الخطاب الطائفي والفعل الطائفي لن يؤديا إلا إلى زيادة ارتهاننا للتخلف، وستدفع الأجيال القادمة ثمن أخطائنا الفادحة. في الغرب تركوا الكاثوليكي على كاثوليكيته والبروتستانتي على بروتستانتيته والأرثوذكسي كذلك، بل كل صاحب دين على دينه، وانطلقوا من هوية وطنية جامعة تتيح الفرص المتكافئة للجميع، وتحدد قيمة كل واحد فيها من خلال إنجازه على أرض الواقع، وليس من خلال عوارض خارجية قد لا يكون له فيها حيلة. هذا في الغرب، أما نحن فلا نزال نصر على التصنيفات والتقسيمات التي لا تقيم للإنسان وإنجازاته وزنا؛ ثم بعد ذلك نسأل مستغربين: لماذا كل هذا التخلف؟!

شاعر وأديب