كلام في الكلام

 

 

 

 

كثيرا ما نردد أن السكوت جميل، ونميل لاحترام الإنسان الساكت، وقد نربي أبناءنا على التحلي بفضيلة السكوت من خلال عدم السماح لهم بالتعبير عن آرائهم خصوصا في محضر الكبار..

ولذلك فلا عجب أن نتحول إلى مجتمع صامت معظم حديثه مونولوج مع داخله لا يتجاوزه إلا في حالات نادرة. إن الحديث الذي لا يصل لمن يهمه الأمر هو في الواقع صمت في صورة كلام.

    هل صحيح أن السكوت جميل على كل حال؟

هل نصمت إذا سلبت حقوقنا؟ هل نصمت إذا تعرضت مقدساتنا للانتهاك؟ هل نصمت إذا رأينا المعروف لا يعمل به والمنكر لا يتناهى عنه؟ هل نصمت إزاء الظواهر الاجتماعية الممعنة في الابتعاد عن قيم الإسلام كانتشار العنف واستخدام السلاح في ارتكاب جرائم السطو والاختطاف والقتل، ونشر ثقافة الفساد في أوساط الشباب والشابات؟ هل نصمت إزاء كافة أشكال التمييز المختلفة التي تبدد الطاقات وتقتل الكفاءات وتشكل ألغاما موقوتة في نسيج المجتمع الواحد؟ هل نصمت كما صمت المجتمع الكوفي وهو يرى رأس أبي عبد الله الحسين عليه السلام وأصحابه على رؤوس الرماح؟ لقد اكتفى ذلك المجتمع بالبكاء والنحيب، مما جعل السيدة العظيمة زينب عليها السلام تستنكر ذلك منهم قائلة: أتبكون وتنتحبون ؟ فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنة…

فالموقف ليس موقف بكاء، بل موقف كلام، إذ (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر).

ترى هل نحتاج إلى إعادة النظر في منظومة صمتنا التي ألفتنا وألفناها؟

سُئل الإمام علي بن الحسين عليه السلام عن الكلام والسكوت … أيهما أفضل؟! فقال: لكل واحد آفات، فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضلُ من السكوت، قيل: كيف ذلك يابنَ رسول الله؟! قال: لأن الله (عز وجل) ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت … إنما بعثهم بالكلام، ولا استحقت الجنة بالسكوت، ولا استُوجبَت ولاية الله بالسكوت، ولا توقيت النار بالسكوت، إنما ذلك كله بالكلام! ما كنت لأعدل القمر بالشمس إنك تصفُ فضلَ السكوت بالكلام ولست تصف فضل الكلام بالسكوت.

هكذا بين الإمام عليه السلام قيمة الكلام، وهو الذي عاش في زمن صمت فيه الأكثرون، بل ذهب عليه السلام أبعد من ذلك حين مارس فعل الكلام وهو في الأسر مخاطبا الناس:
أيّها الناس
إنّ كلّ صمتٍ ليس فيه فكر فهو عيّ، وكل كلامٍ ليس فيه ذكر فهو هباء.
ألا، وإنَ الله تعالى أكرم أقواماً باَبائهم، فحفظ الأبناء بالآباء، لقوله تعالى: (وكان أبوهما صالحاً) فأكرمهما.

ونحن والله عترة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأكرمونا لأجل رسول الله، لأن جدّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول في منبره: احفظوني في عترتي وأهل بيتي، فمن حفظني حفظه الله، ومن آذاني فعليه لعنة الله، ألا، فلعنة الله على من آذاني فيهم حتّى قالها ثلاث مرات. ونحن والله أهل بيت أذهب الله عنّا الرجس والفواحش ما ظهر منها وما بطن….
 
وهكذا نقرأ في دعاء مكارم الأخلاق هذه الفقرة الجميلة:

اللّهمّ صلِّ على محّمد وآله، واجعَل لي يَداً على من ظلمني، ولساناً على من خاصمني، وظفراً بمن عاندَني، وهب لي مكراً على من كايدني، وقدرةً على من اضطهدني، وتكذيباً لِمَن قصبني، وسلامةً مِمَّن تَوعَّدني، ووفّقني لطاعةِ مَن سَدَّدني، ومتابعة مَن أرشدني .

هكذا يكون اللسان الحجة على المخاصم العنيد من مكارم الأخلاق. إذ كيف تطالب بحقوقك إذا لم يكن لك لسان ولو إلكتروني؟ ألم يكلمنا القرآن بقوله تعالى: ﴿ لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) سورة النساء

ترى هل سنصر على ممارسة الصمت حتى قبل أن يطلع الصباح وتسكت شهرزاد عن الكلام المباح؟

شاعر وأديب