تذوقوا الجرعة الأحب

 

 

 

 


عندما يتجرع الإنسان شيئا، فإنه يتذوقه على مضض، ويتكلف شربه جرعة جرعة. هذا ما نفهمه من قوله تعالى في سورة ابراهيم: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17).

فالجبار العنيد يتجرع ذلك الماء الخاص الذي لا يكاد يبتلعه لما يشعر به من اشمئزاز وعدم استساغة.
وهذا ما نفهمه أيضا من قول الإمام علي : مَلَأْتُمْ قَلْبِي قَيْحاً، وَشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً، وَجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاساً.
أما كيف تكون الجرعة ذات المذاق المنفر محببة بل هي الأحب، فهو ما نحاول أن نبينه في السطور التالية.

يقولون: الأمور بخواتيمها، فالمريض يشتري الدواء المر بأغلى الأثمان، وربما يقطع من أجل تحصيله المسافات الشاسعة، لأن عينه دائما على الخاتمة والعاقبة، حيث يتصور نفسه مشافى معافى، خليا من الآلام المبرحة والمنكدة. وهذا ما يجعله يتجرعه طواعية طمعا في الحصول على النتيجة المتوخاة.

إذن قد يتحمل الإنسان بعض الآلام العاجلة من أجل راحة آجلة. وكلما تيقن الإنسان من النتيجة كلما زادت قوة تحمله؛ أي إن قوة التحمل تتناسب طرديا مع قوة اليقين.


الجرعة التي ندعو لتجربة تجرعها هي جرعة الغيظ. والغيظ هو الغضب الشديد الذي يؤدي إلى الانفعال وربما الانفجار إذا لم يتحكم الإنسان في ذاته وردود أفعاله. وحيث إن الغضب مفتاح كل شر كما في الرواية، فإن من الضروري أن يتعود الإنسان على عدم استخدام هذا المفتاح لأنه لا يدري إلى أين يكون مصيره.

نواجه يوميا كثيرا من المواقف المستفزة المتلفة للأعصاب، ونحن أمامها بين خيارين: إما الاستجابة الفورية لها والوقوع في فخها، أو التروي واختيار الموقف المناسب بناء على ما نؤمن به من قيم وما يحركنا من مبادئ. الأول أسهل لأنه يفرغ شحناتنا المكبوتة بسرعة، والثاني أصعب لأنه يحتاج إلى إرادة تتحكم في تفريغ الشحنات، ولكنه أضمن عاقبة بالتأكيد.

في وصيته لابنه الحسن يؤكد الإمام علي على تناول هذه الجرعة، قائلا:
"وتجرع الغيظ فإني لم أر جرعة أحلى منها عاقبة ولا ألذ مغبة" أما النبي ، فقد ورد عنه التأكيد ذاته في قوله: من أحب السبيل إلى الله عز وجل جرعتان : جرعة غيظ تردها بحلم وجرعة مصيبة تردها بصبر.

وينقل الإمام الصادق عن جده الإمام علي بن الحسين أنه كان يقول: ما أحب أن لي بذل نفسي حمر النعم ، وما تجرعت جرعة أحب إلي من جرعة غيظ لا أكافي بها صاحبها.


ويتبين من هذه الرواية تكرار هذا القول منه عليه السلام لأهميته، وأن الكرامة مقدمة على متاع الدنيا، وأن تجرع الغيظ حين يكون الإنسان قادرا على الرد يجلب له الخير الكثير. وهو ما يوضحه الإمام الباقر لولده الصادق إذ يقول له: يا بني ما من شيء أقر لعين أبيك من جرعة غيظ عاقبتها صبر، وما من شيء يسرني أن لي بذل نفسي حمر النعم.

ويحدثنا الإمام الصادق نفسه عن محبوبية تناول هذه الجرعة عند الله تعالى. يقول : ما من قطرة أحب إلى الله من قطرة دمع في سواد الليل يقطرها العبد مخافة من الله ، لا يريد بها غيره ، وما من جرعة يتجرعها عبد أحب إلى الله من جرعة غيظ يتجرعها.


ولأنها تنمي الإرادة التي هي جوهر الإنسانية، ولأنها تقي الإنسان من الوقوع في المزالق الخطرة، ولأنها – فوق ذلك – محبوبة عند الله، فإنني أدعو نفسي وأدعوكم إلى الإكثار من تناول هذه الجرعة وتذوقها، وستجدون حلاوتها، وستحبونها حين ترون نتائجها المضمونة منعكسة على شخصيتكم ومن حولكم.

دمتم بحب.. جمعة مباركة.. أحبكم جميعا..

شاعر وأديب