ماذا بعد الغضب؟

 

 

 

 

المظاهرات والاحتجاجات التي اجتاحت العالم الإسلامي ردا على الفيلم المسيء للنبي محمد تمثل حالة من رد الفعل الجماهيري العفوي المعبر عن غضبه العارم واستيائه الشديد من تعرض صورة نبيه الأكرم للتشويه المتعمد والمبتذل بكل دناءة وحقارة وبذاءة.

ردة الفعل هذه تكشف أيضا عن الارتباط الوثيق بين وجدان الأمة ومقدساتها، وعلى رأسها نبيها الأطهر ، وعن الغيرة المحمودة على تلك المقدسات.

أما ما لا تكشفه هذه الغضبة الساخطة فهو العجز عن إيجاد قنوات تصريفية للطاقات المتولدة والمتفجرة تتجاوز الانفعال الآني إلى الفعل الاستراتيجي. وبسبب هذا العجز تنطفئ في النهاية جذوة الغضب بعد أن تفرغ الجماهير شحناتها المكبوتة وتنفس عنها لتعود لسالف عهدها وسيرتها بانتظار اعتداء جديد على مقدس آخر.

الفعل الاستراتيجي هو بطبيعة الحال أعمق تأثيرا وأبلغ دلالة من الانفعال الآني، ولكنه يخلو من الإغراء والجاذبية لأنه لا يؤتي أكله إلا بعد تخطيط دقيق وعمل متقن متسع المدى، بينما تُقطف ثمار الانفعال الآني سريعا دون اكتراث بنضجها أو عدمه.

وهذا يوضح أحد أسرار نجاح الشعوب الإسلامية في مقاومة الاحتلال وطرد المحتل، وفشلها من ناحية أخرى في بناء دولة المواطنة الحديثة التي تقوم على الحرية والعدل والمساواة وتكافؤ الفرص والمشاركة الشعبية وسيادة القانون.

بُعيد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 طرح العديد من السياسيين والمثقفين الأمريكيين على أنفسهم سؤالا مهما، هو: لماذا يكرهوننا؟ وحاولوا الإجابة عليه لمعرفة الأسباب التي أدت لتلك الهجمات، ومن ثم التعامل معها ومحاولة تجنب وقوع أمثالها مرة أخرى.

وكان من بين المجيبين على هذا السؤال المفكر الكبير (نعوم تشومسكي) الذي رأى في الفظاعات المروعة لهجوم الحادي عشر من سبتمبر رد فعل على فظاعات لا تقل عنها حجما ترتكبها السياسة الخارجية الأمريكية منذ سنوات قبل الهجوم.

إن مجرد طرح السؤال هو في حد ذاته فعل حضاري لأنه يبحث عن الأسباب ويهدف إلى تشخيص المشكلة قبل المضي في وصف الدواء الناجع، كما إنه ينطوي على اتهام للنفس بالتقصير، ومن ثم وجود استعداد لديها للمحاسبة وتحمل المسؤولية.

من السهولة أن نلقي باللائمة على الآخر في إنتاج الفيلم المسيء، ولكن من الصعوبة أن نرجع إلى أنفسنا فنسأل عن دورها غير المباشر في هذا الإنتاج العفن.

ألا توجد مادة مسيئة مشوهة لصورة النبي في كتب التراث المعنية بالحديث والسيرة؟ ولماذا لم يتم تنقيح تلك الكتب وغربلتها بعرضها على كتاب الله تعالى؟

هل نحن كأمة تنتمي للنبي الكريم استطاعت أن تدافع عن شرف هذا الانتماء من خلال تحويل واقعها المتخلف إلى واقع يحكي سيرة الرسول في الخلق العظيم والصدق والأمانة والعلم والعدل والمشاورة والرأفة والرحمة، أم أنها ساهمت في تشويه الصورة من خلال تحكم الاستبداد في كافة مفاصل حياتها السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، واستمرائها للذل والخنوع والفرقة والتشتت؟

هل أخذت الأمة على محمل الجد المقولة الثاقبة لرسول الله التي تتحدث عن انحياز القانون ودوره في فناء الأمة وهلاكها، حيث يقول:"إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد . وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".

لماذا عجزت ملياراتنا المكدسة في البنوك الأمريكية والغربية عن الدفاع عن قضايانا، وتكوين اللوبيات وجماعات الضغط للتأثير في الإعلام والاقتصاد والسياسة هناك لصالح قضايانا العادلة؟

لماذا لم نقم بإنتاج أضخم الأفلام عن السيرة الصحيحة للنبي وبمختلف اللغات للتعريف بأعظم شخصية عالمية؟ أم أن الإنفاق على السلاح الذي لا يستخدم ضد العدو أبدا أهم؟

الأسئلة كثيرة وضرورية لمواجهة الذات أولا قبل مواجهة الآخر، ومن دونها سنظل ندور في دائرة مفرغة.

وقد ساهمت بعض ردود الأفعال الانفعالية بتكريس الصورة المشوهة عنا بسبب ممارساتها العنفية المتجاوزة للحد، وقدمت خدمة مجانية لمنتج الفيلم.

لذا فإن ما بعد الغضب ينبغي أن يركز على فعل استراتيجي ينتشل الأمة من أوحال التخلف والجهل والاستبداد، ويعيد تشكيل وعيها لتكون – كما أرادها الله تعالى – أمة وسطا شاهدة على الناس وعلى عصرها،

وبدون ذلك لن يقيم أحد لها وزنا، وستتكرر القصة المأساة كل حين إلى ما لا نهاية.

 

شاعر وأديب