قارون في موكبه الاستعراضي (1 من 2 )

 

 


فَخَرَجَ عَلى‏ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) سورة القصص


مضى قارون في غيه ولم يستمع لنصيحة الناصحين، فخرج في استعراض لافت في موكب حاشد يدل على انغماسه التام (فِي زِينَتِهِ) التي استولت عليه وأخذت بمجامعه حتى أصبح هو فيها وليس عليها. خرج (عَلى‏ قَوْمِهِ) مستعليا، متباهيا عليهم بما هو مملوك وعبد له، وإن كان في ظاهره مالكا وسيدا.


انقسم الناس في موقفهم تجاه ما شاهدوه إلى فريقين: الأول – وهم الغالبية العظمى -  أصحاب الموقف الانبهاري الذين هالهم ما رأوا بأعينهم الحسية من مظاهر مادية تستخف النفوس الراكنة للحياة الدنيا وزخرفها وزبرجها. الثاني: أصحاب الموقف الاحتقاري الذين ينظرون بعين القلب الناظر بنور الله المشغول ببهائه.

هؤلاء يرون غير المرئي ويشهدون غير المشهود. هؤلاء الذين وصفهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب خير وصف، فقال:
 "لَوْلَا الْآجَال الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَهُمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ وَخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ. عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ. فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ‏ فِيهَا مُنَعَّمُونَ‏ وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ"


 أصحاب الموقف الانبهاري تمنوا أن تكون لديهم ثروة قارونية، ليكونوا مثله، لأنه – في رأيهم – وبكل تأكيد ذو حظ عظيم، فأي سعادة يريدونها أكثر من هذا؟ وأي بخت يبحثون عنه أعظم من بخته؟


أما أصحاب الموقف الاحتقاري فقد نظروا للأمر نظرة تجاوزت الظاهر للباطن والسطح للعمق والملك للملكوت، فرأوا كل ذلك متاع الغرور، لأنه شيء عارض زائل. والحصيف من يقدم الآجل الباقي على العاجل الفاني.

لذا حذروا المنبهرين من انفعالهم وتفاعلهم المبالغ فيه مع المظاهر الخادعة الكاذبة، ولفتوا أنظارهم إلى ما هو خير وأبقى من ثواب الله الذي أعده للمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
وقفات:
1- الطغاة يسعون دائما لجذب أنظار الآخرين إليهم حتى يُحدِثوا في أنفسهم الصغار ويصيبوهم بعقدة الحقارة، ليتمكنوا من إذلالهم واستعبادهم. قال السيد علي خان المدني الشيرازي في كتابه القيم (رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين) عند شرحه قول الإمام السجاد في دعاء مكارم الأخلاق: (ولا تفتني بالنظر)  ، قال رحمه الله:


"لا تفتنّي بالنظر والالتفات إلى ما في أيدي الناس من متاع الدنيا ، كما قال تعالى : « ولا تمُدّنَّ عَيْنَكَ إلى ما مَتّعنا بهِ أزواجا مِنْهُمْ زَهْرةَ الحياةِ الدُنيا لِنَفْتِنَهم فيهِ ورِزق رَبّكَ خَيرٌ وأبْقى » نهى سبحانه نبيّه عن النظر بطريق الرغبة والميل إلى ما متّع به أصنافا من الكفرة ، من زهرة الحياة الدنيا وزينتها وزخارفها ، تحذيرا من الميل إلى الزخارف الدنيويّة ، ولقد شدّد العلماء المتّقون في وجوب غضّ البصر عن أبنية الظلمة وملابسهم ومراكبهم ، لأنّهم اتخذوها لعيون النّظارة ، فالناظر إليها محصّل لغرضهم ، فيكون إغراء لهم على اتّخاذها" .

2- في قوله تعالى (فَخَرَجَ عَلى‏ قَوْمِهِ) العديد من النكات واللطائف القرآنية. فحرف العطف (الفاء) يدل على تماديه في الغي وعدم اكتراثه بالنصائح المقدمة له، وعدم إمهاله نفسه ولو زمنا يسيرا للتفكير فيها. كما إن (خرج على) تدل على الخروج من مكان أو موقع عالٍ يشرف على الآخرين مصحوبا بهيبة أو إبهار.

ألا ترى إلى قول امرأة العزيز ليوسف عليه السلام حين أرادت إبهار النسوة بجمال وهيبة يوسف فقالت (اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ)؟! وكذلك قوله تعالى في شأن زكريا حين أطل على قومه في مهابة حقيقية غير مصطنعة: (فَخَرَجَ عَلى‏ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى‏ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) مريم:11 .

 وفي قوله (على قومه) تعريض بالخروج المقيت لقارون بهيبته الزائفة، والذي يزداد سوءا لأنه على قومه وبني جلدته. إذ كلما  كانت المشتركات أكثر كان الجرم أكبر. ولذا قال الشاعر:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة        على المرء من وقع الحسام المهندِ
فالظلم من أي كان قبيح، ومن القريب أقبح.

 

شاعر وأديب