قارون في موكبه الاستعراضي (2 من 2 )

 

 

 

 


فَخَرَجَ عَلى‏ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) سورة القصص


في المقال السابق ، تكلمنا عن مضي قارون في غيه و استعراضه موقفه و انقسام الناس في موقفهم تجاه ما شاهدوه إلى فريقين : الأول – وهم الغالبية العظمى -  أصحاب الموقف الانبهاري ، الثاني: و هم أصحاب الموقف الاحتقاري الذين ينظرون بعين القلب الناظر بنور الله المشغول ببهائه ، واختتمنا المقال بوقفتين في هذا المقام لنكمل اليوم ما تبقى من وقفات


1-الزينة زينتان؛ مادية ومعنوية. الأولى هي المقصودة في قوله تعالى (فِي زِينَتِهِ)، والثانية هي التي فصلها الإمام السجاد في دعاء مكارم الأخلاق داعيا بقوله: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِه ، وحَلِّنِي بِحِلْيَةِ الصَّالِحِينَ ، وأَلْبِسْنِي زِينَةَ الْمُتَّقِينَ ، فِي بَسْطِ الْعَدْلِ ، وكَظْمِ الغَيْظِ ، وإِطْفَاءِ النَّائِرَةِ ، وضَمِّ أَهْلِ الْفُرْقَةِ ، وإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ ، وإِفْشَاءِ الْعَارِفَةِ ، وسَتْرِ الْعَائِبَةِ ، ولِينِ الْعَرِيكَةِ ، وخَفْضِ الْجَنَاحِ ، وحُسْنِ السِّيرَةِ ، وسُكُونِ الرِّيحِ ، وطِيبِ الْمُخَالَقَةِ ، والسَّبْقِ إِلَى الْفَضِيلَةِ ، وإِيثَارِ التَّفَضُّلِ ، وتَرْكِ التَّعْيِيرِ ، والإِفْضَالِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ ، والْقَوْلِ بِالْحَقِّ وإِنْ عَزَّ ، واسْتِقْلَالِ الْخَيْرِ وإِنْ كَثُرَ مِنْ قَوْلِي وفِعْلِي ، واسْتِكْثَارِ الشَّرِّ وإِنْ قَلَّ مِنْ قَوْلِي وفِعْلِي ، وأَكْمِلْ ذَلِكَ لِي بِدَوَامِ الطَّاعَةِ ، ولُزُومِ الْجَمَاعَةِ ، ورَفْضِ أَهْلِ الْبِدَعِ ، ومُسْتَعْمِلِ الرَّأْيِ الْمُخْتَرَعِ .


2-  روي عن الإمام الصادق قوله: حب الدنيا رأس كل خطيئة . هكذا نرى الذين يريدون الحياة الدنيا يرتكبون خطيئة فكرية وعقائدية خطيرة، حيث تمنوا أن تكون لهم ثروة كثروة قارون لأنهم اعتقدوا أن الحظ العظيم هو في حيازة الثروات الطائلة، ونسوا أن الحظ العظيم يكمن في الانتصار على النفس وليس في الانقياد لشهواتها وأهوائها. نقرأ ذلك في قوله تعالى في سورة فصلت: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) .


3-العلم الحقيقي هو العلم الذي يغير نظرة الإنسان للكون، فلا يرى في الحياة الدنيا سوى ممر إلى عالم آخر هو عالم الحياة الحقيقية أو (الحيوان) بتعبير القرآن الكريم. يقول تعالى: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) العنكبوت: 64 ، ومن هنا يظهر أن المراد من العلم هو علم المعارف الإلهية الحقة. أما العلم الذي عند قارون فهو مساوق للا علم.هذا ما نستفيده من قوله تعالى: (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) حيث (العلم) معرفة بلام الاستغراق.


4-على حملة العلم التصدي للانحرافات الفكرية والعقائدية والسلوكية وغيرها في مجتمعاتهم، وتنبيه الأمة لها وتحذيرها من العواقب الوخيمة. هذا ما فعله الذين أوتوا العلم حين رأوا انبهار الأكثرية الساحقة بالنموذج القاروني، فحذروهم من العذاب بقولهم لهم: (وَيْلَكُمْ)، ونبهوهم وأرشدوهم إلى البديل الأفضل بقولهم: (ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً


5-على حملة العلم إرشاد الأمة للبدائل الأفضل وسبل الوصول إليها وبيان الملكات اللازم توفرها في هذا السبيل. وقد بين هنا حملة العلم لقومهم أن البديل الأفضل عن ثروة قارون هو ثواب الله، وأن الطريق متاح للجميع في الوصول إلى ذلك، وأن هذا المطلب لا يُنال بالتمني، بل بالإيمان والعمل الصالح، وتلك حالة تحتاج إلى حيازة ملكة الصبر، كما قال تعالى: (وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ).   


6- قد يستظهر من قوله تعالى (لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) بدلا من قوله (لكم) أو (للمؤمنين العاملين الصالحات) مثلا، أن الأساس في الثواب هو الفعل (آمن، عمل) وأن هذه قاعدة مضطردة ليس خاصة بالمخاطبين، بل بكل من تنطبق عليه الشروط.


7- ينبغي السعي لتحصيل ملكة الصبر لأهميتها في ثبات الإنسان في النوائب والابتلاءات. وقد ورد عن الإمام الصادق : "الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان".


8- على المرء أن يتطلع دائما لما هو خير، وعلى المجتمعات أن تتنافس فيما هو خير أيضا.

شاعر وأديب