يموتون قبل أوان الحصاد

 

 

 

 يتحمل الساعون في طريق التغيير الكثير من الآلام بسبب المقاومة والصدود والهجران والسخرية والاستهزاء وغيرها مما يجابههم به مجتمعهم الذي يريدون نقله لما هو أسمى، غير أنه يصر على البقاء في الأدنى.

يتألمون لواقعه، ويحاولون أن يعيدوا رسم مستقبله بشكل مختلف، إذ يرون ما لا يرى غيرهم بعيون تفوق عيون زرقاء اليمامة حدة وقوة. قد ينجحون فيشهدون حدث التغيير الذي ينشدونه، وقد يرحلون بآمالهم العريضة التي حالت دون تحقيقها الظروف الخارجية، وليس التقصير الذاتي منهم.

في الكافي بسنده عن ناجية، قال: قلت لأبي جعفر : إن المغيرة يقول: إن المؤمن لا يبتلى بالجذام، و لا البرص، و لا بكذا، و لا بكذا؟

فقال: ﴿إن كان لغافلا عن صاحب يس إنه كان مكنعا. ثم ردت أصابعه. فقال: وكأني أنظر إلى تكنيعه، أتاهم فأنذرهم، ثم عاد إليهم من الغد، فقتلوه. ثم قال: إن المؤمن يبتلى بكل بلية، و يموت بكل ميتة، إلا أنه لا يقتل نفسه.

والمكنع أي المصاب بإعاقة في أصابعه من تيبس وتشنج.

وصاحب ياسين هذا هو الذي تحدثت عنه الآيات في سورة (يس) بعد استشهاده، وما آل إليه، وعن نفسه الكبيرة التي تعلو على كل الجراح، وتظل مشغولة بهدفها حتى وهي تتقلب في النعيم:﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27).

هذا هو الفرق بين الدعاة الحقيقيين وأدعياء التغيير الذين كل همهم الحصول على أكبر حصة من الغنائم، غنائم السلطة والثروة والقوة، وإنما يتخذون التغيير وسيلة لبلوغ مآربهم التي يخفونها تحت الشعارات البراقة والوعود الفارغة.

الدعاة الحقيقيون لا ينتظرون أن يصلوا، فالمهم لديهم أنهم يسيرون في الطريق الصحيح، ويزرعونه ويسقونه بجهدهم وعرقهم وسمعتهم وجاههم وربما بدمهم أيضا ليأتي بعد ذلك في يوم ما الحاصدون للثمار الطيبة في أوان القطاف الذي قد يتأخر كثيرا.

الدعاة الحقيقيون هم الذين يعملون دون كلل ولا ملل ولا فتور، وبمختلف الأساليب، طمعا في إحداث التغيير المطلوب. هكذا تحدث نبي الله نوح مع الرب العليم الخبير، كما جاء في سورة (نوح).

﴿قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14).

يقول السيد المدرسي في تفسيره (من هدى القرآن): وهذه من صفات المجاهدين الرساليين أنهم لا يعرفون وقتا مخصوصا يحصرون فيه دعوتهم وجهادهم، إنما يسخرون كل طاقاتهم، ويصرفون كل أوقاتهم من أجل رسالتهم وأهدافهم، يدفعهم إلى ذلك أمران مهمّان: أحدهما: الرغبة في ثواب اللّه وخشية عقابه، والآخر: إحساسهم بعظمة أهدافهم وتطلعاتهم، وأن بلوغها لا يمكن إلّا بالجد والاجتهاد والمزيد من السعي، إذ الأهداف كبيرة والإمكانات محدودة، فلا بدّ من سد النقص الكمي في العدد والعدة بالكيف، الأمر الذي لا يجعل حتى ليلهم- كما يتصور البعض- وقت راحة واسترخاء، فإنهم إن لم يشتغلوا فيه بدعوة الناس والأدوار الاجتماعية المباشرة، فسيجعلونه فرصة للتفكير في شأن رسالتهم ومسئولياتهم، والاتصال بربهم تعرّضا لنفحاته ومرضاته، وتلقّيا لإرادة العمل الدؤوب في سبيله، وتزودا بالإيمان وروح التسليم.

شاعر وأديب