يموتون قبل أوان الحصاد (3)

 

 

 

التحولات الكبرى في مسيرات الأمم لا تحدث فجأة. هذه حقيقة ينبغي أن نستوعبها ونعيها بعمق حتى لا نغفل عما قبل حدوث التحول من تفاعلات جمة صنعت في النهاية ما نراه على السطح.

إن إهمال ذلك يؤدي إلى عدم فهم معادلة كيمياء التحول بصورة جيدة، ويتسبب في ظلم الأشخاص والأدوار والأفكار التاريخية التي ساهمت بشكل أو بآخر في صنع التحول ولم تشهد ولادته. كما يؤدي إلى استنساخ مجتزأ لتجارب الآخرين، استنساخ يركز على الحلقة الأخيرة من مسلسل التحول دون أن يكلف نفسه عناء قراءة التجربة كلها.

كثير كان يظن أن دوار اللؤلؤة في المنامة يشبه ميدان التحرير في القاهرة، وأن الاعتصام فيه سيؤدي لما أدى إليه الاعتصام هناك، ولكن النتائج كانت مختلفة. وأحد الأسباب الرئيسة لذلك كان يتمثل في الحلقات الطويلة السابقة من مسلسل القاهرة التي استطاعت ترسيخ الهوية المصرية الوطنية الجامعة التي أصبحت جزءا من شخصية المصري البسيط وغير البسيط، والمسلم والقبطي، وأبناء المدينة وأبناء الريف. بينما لم تصل البحرين لتلك الحالة، فاستثمر السياسي ذلك بدهاء، ونجح في استقطاب مكون رئيس إلى جانبه أو تحييده على الأقل.

بالطبع هناك ظروف عدة أخرى ساهمت أيضا في عدم نجاح عملية الاستنساخ، وهو ما يحتاج إلى تحليل أعمق ليس هذا المقال محله.

ما نريد التأكيد عليه هنا هو أن لا يُكتفى بقراءة الفصل الأخير فقط من التحولات، بل لا بد من قراءة جميع الفصول لاستيعاب التجارب وتقييمها كما يجب.

ينقل الأستاذ هاشم صالح في كتابه (معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا) قول ميشيل لوني، الأستاذ في جامعة نيس بجنوب فرنسا، يقول ما معناه: "إذا كانت المسيحية قد تصالحت مع الحضارة الحديثة في وقتنا الراهن، فإن ذلك يعود إلى الجهود التي بذلها فولتير وجان جاك روسو قبل مئتي سنة. وبالتالي فنحن نحصد ما زرعه الآخرون قبلنا. فهم تعذبوا وشقوا ونحن نقطف الثمار".

وهو ما يؤكد عليه الأستاذ صالح في أكثر من موضع من كتابه، يقول في أحدها: " كان فولتير وروسو وديدرو وليسنغ كأنهم يعرفون جيدا أنهم سوف يموتون قبل أن يروا النتيجة، قبل أن يكحلوا أعينهم بأول خيوط الفجر، ولكنهم مع ذلك اشتغلوا وناضلوا وضحوا من أجل الحرية ومن أجل الأجيال الأوروبية المقبلة. فهم زرعوا والآخرون يحصدون. هكذا يحصل التحرير، وهكذا تبنى الحضارات لبنة لبنة، وخطوة خطوة. ومن أصعب الأشياء بناء الحضارات. يمكن أن تخرب، أن تهدم! ولكن أن تبني؟ من يستطيع أن يبني؟ خصوصا من أجل الآخرين!..."

شاعر وأديب