حب الحسين إذا تجلى

 

يقول الشاعر الكبير جاسم الصحيح في قصيدته العينية (رحلة في جرح الحسين) مخاطبا الإمام الحسين :

أقيـسُ بِحُبِّـكَ حجـمَ اليقـيـنِ فحُبُّـكَ فيمـا أرى مرجـعـي
خلعتُ الأساطيـرَ عنِّـي سـوى.. أساطيـرِ عشقِـكَ لـم أخـلـعِ
وغصتُ بِجرحكَ حيث الشموسُ تهـرولُ فـي ذلـك المطـلـعِ
وحيث (المثلَّثُ) شـقَّ الطريـقَ أمامـي إلـى العالَـمِ الأرفـعِ
وعلَّمَنـي أن عشـقَ (الحسيـنِ) انكشافٌ علـى شفـرةِ المبضـعِ
فعَرَّيْتُ روحي أمـام السيـوفِ التـي التَهَمَتْـكَ ولـم تشـبـعِ
وآمنتُ بالعشـقِ نبـعَ الجنـونِ فقد بَـرِئَ العشـقُ مِمَّـنْ يَعـي


مما لا شك فيه أن حب الحسين طريق إلى تحصيل محبة الله تعالى التي هي منتهى رغبة الراغبين، وطلبة الطالبين، وغاية السالكين. فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن رسول الله أنه قال: حسين مني وأنا من حسين. أحَب اللهُ من أحب حسينا. حسين سبط من الأسباط.

وقال الإمام الصادق :من أراد اللَّه به الخير ، قذف في قلبه حبّ الحسين وحبّ زيارته .

وللحب كما هو معلوم تجلياته في نفس الإنسان وقلبه وروحه، وله انعكاساته على سلوكه ومعاملاته. يتجلى حب الحسين على المرء في حبه للقيم والمبادئ السامية التي عاشها الحسين وبذل نفسه الشريفة من أجلها. ويتجلى حب الحسين في اقتفاء خطواته بالسير في طريق إصلاح الأمة الذي بدأه جده رسول الله ، فقد لخص الحسين أهداف نهضته المباركة بقوله: وأني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي ( صلى الله عليه وآله ) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب .

والإصلاح عنوان عريض يبدأ من إصلاح الذات ثم الدائرة الأقرب من الأهل والعشيرة والمجتمع المحلي، ليشمل بعد ذلك الدائرة الأوسع من الأمة والعالم.

ويتجلى حب الحسين في امتلاك الوعي المستنير القادر على تشخيص واقع الأمة وما تحتاجه، والاستعداد لبذل الغالي والنفيس في سبيل إنقاذها. وذلك اقتداء به حين قال في مسيره إلى كربلاء: إِنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا قَدْ تَغَيَّرَتْ وَ تَنَكَّرَتْ وَأَدْبَرَ مَعْرُوفُهَا، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ، وَخَسِيسُ عَيْشٍ كَالْمَرْعَى الْوَبِيلِ. أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ الْحَقَّ لَا يُعْمَلُ بِهِ وَأَنَّ الْبَاطِلَ لَا يُتَنَاهَى عَنْهُ، لِيَرْغَبَ الْمُؤْمِنُ فِي لِقَاءِ اللَّهِ مُحِقّاً. فَإِنِّي لَا أَرَى الْمَوْتَ إِلَّا سَعَادَةً وَلَا الْحَيَاةَ مَعَ الظَّالِمِينَ إِلَّا بَرَماً. إِنَّ النَّاسَ عَبِيدُ الدُّنْيَا وَالدِّينُ لَعْقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانُونَ.

ويتجلى حب الحسين بالاقتداء به في صبره الجميل على قضاء الله وقدره، وثنائه عليه في كل الأحوال والأوقات. يقول عليه السلام متخذا قراره المصيري وهو يدرك ما ينطوي عليه: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَما شاءَ اللَّهُ‏ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَآلِهِ‏ وَ سَلَّمَ خُطَّ الْمَوْتُ عَلَى وُلْدِ آدَمَ مَخَطَّ الْقِلَادَةِ عَلَى جِيدِ الْفَتَاةِ، وَمَا أَوْلَهَنِي إِلَى أَسْلَافِي اشْتِيَاقَ يَعْقُوبَ إِلَى يُوسُفَ، وَخُيِّرَ لِي مَصْرَعٌ أَنَا لَاقِيهِ كَأَنِّي بِأَوْصَالِي تَقَطَّعُهَا عُسْلَانُ الْفَلَوَاتِ، بَيْنَ النَّوَاوِيسِ وَ كَرْبَلَاءَ فَيَمْلَأَنَّ مِنِّي أَكْرَاشاً جُوفاً، وَأَجْرِبَةً سُغْباً لَا مَحِيصَ عَنْ يَوْمٍ خُطَّ بِالْقَلَمِ، رِضَى اللَّهِ رِضَانَا أَهْلَ الْبَيْتِ، نَصْبِرُ عَلَى بَلَائِهِ وَيُوَفِّينَا أُجُورَ الصَّابِرِينَ لَنْ تَشُذَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ لَحْمَةٌ هِيَ مَجْمُوعَةٌ لَهُ فِي حَظِيرَةِ الْقُدْسِ تَقَرُّ بِهِمْ عَيْنُهُ، وَيُنَجَّزُ لَهُمْ وَعْدُهُ، مَنْ كَانَ بَاذِلًا فِينَا مُهْجَتَهُ، وَمُوَطِّناً عَلَى لِقَاءِ اللَّهِ نَفْسَهُ، فَلْيَرْحَلْ فَإِنِّي رَاحِلٌ مُصْبِحاً، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

ويتجلى حب الحسين في النهل من مدرسته العرفانية التي جسدت الدروس العملية في الفناء في الله تعالى حبا وعشقا، لأنه لها كل شيء. هذا ما عبر عنه عليه السلام في دعائه يوم عرفة بتلك الكلمات الرائعة: ماذا وجد من فقدك ، وما الذي فقد من وجدك.

دمتم بحب .. أحبكم جميعا.

شاعر وأديب