المتخاذلون والضريبة الباهظة

 

 

 

جاء في كتب التاريخ في الأحداث التي تلت مقتل الحسين في محرم سنة 61 هـ الوصف التالي لمشهد من المشاهد المخزية التي لا يُغسل عارها أبدا، لأنه يكشف عن المستوى الأخلاقي الهابط الخالي من بقية الإنسانية، ناهيك عن بقية الدين والضمير لدى السلطات الحاكمة، وعن الحالة المتردية التي بلغتها الأمة حينذاك من التخاذل والاستسلام.

يقول الوصف: وساق القومُ حرم رسول الله ( ص ) كما تساق الأسارى ، حتى إذا بلغوا بهم الكوفة خرج الناس ينظرون إليهم ، وجعلوا يبكون ويتوجعون ، وعلي بن الحسين مريض ، مغلول مكبل بالحديد قد نهكته العلة ، فقال : ألا إن هؤلاء يبكون ويتوجعون من أجلنا ، فمن قتلنا إذن ؟

سؤال صعب كان على الجمهور المتفرج المنخرط في البكاء والعويل، المتألم من وخز الضمير، أن يطرحه على نفسه، ليدرك حجم الجريمة التي شارك فيها بوقوفه في صف السلطة الجائرة، أو بِصَمته عن أفعالها الدنيئة، وعدم نصرته لمن أخلصوا له، وسعوا في تحريره من الاستبداد والطغيان.

وهو ما بينته لهم السيدة العظيمة زينب بنت علي بن أبي طالب حين خطبت فيهم مؤنبة وموبخة لهم، مشنعة عليهم ما فعلوه من خذلان للإمام الحسين ، كاشفة سوءاتهم أمام أعينهم. تقول :
أَمَّا بَعْدُ يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ يَا أَهْلَ الْخَتْلِ وَالْغَدْرِ وَالْخَذْلِ. أَلَا فَلَا رَقَأَتِ الْعَبْرَةُ، وَلَا هَدَأَتِ الزَّفْرَةُ. إِنَّمَا مَثَلُكُمْ كَمَثَلِ الَّتِي‏ نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ‏. هَلْ فِيكُمْ إِلَّا الصَّلَفُ وَالْعُجْبُ وَالشَّنَفُ وَالْكَذِبُ وَمَلَقُ الْإِمَاءِ وَغَمْزُ الْأَعْدَاءِ، أَوْ كَمَرْعًى عَلَى دِمْنَةٍ أَوْ كَفِضَّةٍ عَلَى مَلْحُودَةٍ، أَلَا بِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَفِي الْعَذَابِ أَنْتُمْ خَالِدُونَ. أَتَبْكُونَ أَخِي؟! أَجَلْ وَاللَّهِ فَابْكُوا فَإِنَّكُمْ أَحْرَى بِالْبُكَاءِ، فَابْكُوا كَثِيراً وَاضْحَكُوا قَلِيلًا فَقَدْ أَبْلَيْتُمْ بِعَارِهَا، وَمَنَيْتُمْ بِشَنَارِهَا، وَلَنْ تَرْحَضُوهَا ( أي تغسلوها) أَبَداً....

ثم تمضي في كلامها موضحة الثمن الباهظ الذي يتوجب عليهم أن يدفعوه في دنياهم وآخرتهم نتيجة مواقفهم الانهزامية المتخاذلة. تقول:﴿ أَلَا سَاءَ مَا قَدَّمَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ وَسَاءَ مَا تَزِرُونَ لِيَوْمِ بَعْثِكُم. فَتَعْساً تَعْساً وَنَكْساً نَكْساً لَقَدْ خَابَ السَّعْيُ وَتَبَّتِ الْأَيْدِي وَخَسِرَتِ الصَّفْقَةُ وَبُؤْتُمْ‏ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْكُمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ.

وبالفعل فقد دفعت الأمة ثمنا باهظا جدا لعدم اتخاذها الموقف الصائب المؤيد للإمام الحسين ، حيث لم يقاتل في صفه إلا نفر قليل، وبقي الآخرون بين متفرج مسلوب الإرادة، وبين مشارك في القتال في جبهة الباطل. فكانت النتيجة في المدينة ما ذكره ابن كثير في تاريخه (البداية والنهاية): ثم أباح مسلم بن عقبة ،  الذي يقول فيه السلف مسرف بن عقبة - قبحه الله من شيخ سوء ما أجهله - المدينة ثلاث أيام كما أمره يزيد ، لا جزاه الله خيرا ، وقتل خلقا من أشرافها وقرائها وانتهب أموالا كثيرة منها ، ووقع شر عظيم وفساد عريض على ما ذكره غير واحد.
وكانت النتيجة لاحقا في العراق تسلط الحجاج بن يوسف الثقفي على رقاب العباد وثروات البلاد، الذي كان يخبر عن نفسه – كما يذكر المسعودي في (مروج الذهب) – أن أكثر لَذاته سفك الدماء وارتكاب أمور لا يقدم عليها غيره.

يقول الدميري في كتابه (حياة الحيوان الكبرى): وقال الحافظ الذهبي وابن خلكان وغيرهما: أحصي من قتله الحجاج صبرا، سوى من قتل في حروبه، فبلغ مائة ألف وعشرين ألفا. وكذا رواه الترمذي في جامعه. ومات في حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة، منهن ستة عشر ألفا مجردات. وكان يحبس الرجال والنساء في موضع واحد. وعرضت سجونه بعده، فوجد فيها ثلاثة وثلاثون ألفا لم يجب على أحد منهم لا قطع ولا صلب.

إن على الشعوب اليوم أن تستوعب هذا الدرس جيدا، كي تدرك أن عدم تحملها مسؤولياتها التاريخية بالوقوف في وجه الاستبداد سيكلفها أثمانا باهظة من كرامتها وعزتها وحريتها، وأن فاتورة الخذلان صعبة التسديد.

شاعر وأديب