المحبون عن وعي

 

 


أدلى قائد ميداني من قواد جيش يزيد في معركة كربلاء بتصريح خطير جاء في سياق توبيخه لجيشه ونهيه لهم عن قتال المبارزة مع جيش الإمام الحسين. قال عمرو بن الحجاج الزبيدي لجيشه كما نقل الطبري في تاريخه:"ويلكم يا حمقاء، مهلا، أتدرون من تقاتلون؟ إنما تقاتلون فرسان المصر، وأهل البصائر، وقوما مستميتين". فقد تضمن كلامه وصفا دقيقا ينم عن معرفة بالجيش المقابل، وأنه يضم شخصيات لها باع طويل في ميدان الفروسية والحرب، فهم ليسوا نكرات أو مغمورين، وأنهم بالإضافة لذلك يمتلكون وعيا ثاقبا أو (أهل البصائر) بحسب تعبيره، كما أنهم أفراد استشهاديون يحملون أرواحهم على أكفهم.د

(أهل البصائر) كما يقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين في كتابه (أنصار الحسين) هو "تعبير يعنى به الواعون الذين يتخذون مواقفهم عن قناعات تتصل بالمبدأ الاسلامي، ولا تتصل بالاعتبارات النفعية".

الإمام الحسين لم يكن يريد أن يكون معه إلا المحبون عن وعي، وعي بالواقع المرير الذي تمر به الأمة حينذاك، ووعي بالموقف الشرعي الصحيح الذي يجب أن يتخذ لتغيير الواقع، ووعي بمكانة القيادة ومقامها العظيم. لم يبحث الحسين عن إمَّعات أو همج رعاع أتباع كل ناعق، بل كان ينتقي أصحابه انتقاء ويصفيهم تصفية بعد تصفية، حتى لا يبقى إلا المحبون المخلصون.

تسأله أخته العقيلة زينب عليها السلام ليلة العاشر من المحرم سؤال الشفيق: أخي، هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم فإنّي أخشى أن يسلموك عند الوثبة واصطكاك الأسنّة !

فبكى (عليه السلام) وقال: أَما وَاللهِ! لَقَدْ نَهَرْتُهُمْ وَبَلَوْتُهُمْ وَلَيْسَ فيهِم إِلاَّ الأشْوَسَ الأقْعَسَ؛ يَسْتَأْنِسُونَ بِالْمَنِيَّةِ دُوني اسْتِئْناسَ الطِّفْلِ بِلَبَنِ أُمِّهِ.

ويسأل هو ابن أخيه، الشاب اليافع (القاسم بن الحسن) سؤال المختبر الخبير: يا بني كيف الموت عندك ؟ ! فأجابه القاسم جواب المحب العاشق لعمه وللشهادة: يا عم أحلى من العسل.

وعندما عرض على أصحابه مفارقته، وأبوا إلا ملازمته ونصرته، أوضح لهم المصير المحتوم الذي ينتظرهم ليكونوا على بصيرة تامة من أمرهم، قائلا: "يا قوم إني في غد أقتل وتقتلون كلكم معي، ولا يبقى منكم واحد!". فقالوا بلسان المحبين الواعين: الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك وشرفنا بالقتل معك، أوَ لا نرضى أن نكون معك في درجتك يا ابن رسول الله ؟.

وفي موقف اختباري آخر، رأى نافع بن هلال ليلة العاشر مفردا، فقال له: يا هِلالُ! ألا تَسْلُكُ ما بَيْنَ هذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ مِنْ وَقْتِكَ هذا وَانْجُ بِنَفْسِكَ. فوقع على قدميه وقال: إذن ثكلت هلالاً أُمّه! سيّدي، إنّ سيفي بألف وفرسي مثله، فو الله الذي منّ عليّ بك لا أفارقك حتّى يَكِلاّ عن فَري وجَري.

وفي موقف آخر أيضا، وصل الخبر إلى محمد بن بشير الحضرمي أن ابنه قد أُسِر بثغر الري، فقال: عند الله أحتسبه ونفسي ما كنت أؤثر أن يؤسر وأبقى بعده. فسمع الحسين عليه السلام قوله، فأذن له في المضي، لاستنقاذ ولده من الأسر. فكان الرد من (الحضرمي) المحب الواعي: أكلتني السباع حيا إن فارقتك.

أما ابنه علي بن الحسين الملقب بالأكبر، فقد استوقفه فعل تكرر من أبيه بطريقة ملفتة، وهم في الطريق إلى كربلاء. فسأل أباه الحسين : مم حمدت الله واسترجعت؟ فقال : "يا بني، إني خفقتُ خفقة فَعَنَّ لي فارس على فرس وهو يقول: القوم يسيرون، والمنايا تسير إليهم، فعلمت أنها أنفسنا نُعِيَت إلينا " فقال له : يا أبت لا أراك الله سوءا، ألسنا على الحق؟ قال: "بلى، والذي إليه مرجع العباد" قال: فإننا
إذن لا نبالي أن نموت محقين.

محب آخر من المحبين الواعين هو زهير بن القين الذي عبر حبه ويقينه قائلا للإمام الحسين: والله لوددتُ أني قُتِلتُ ثم نُشِرتُ ثم قتلت حتى أقتل هكذا ألف مرة وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك لفعلت.

أما مسلم بن عوسجة، فإنه كان مشغولا بمحبوبه الحسين حتى اللحظات الأخيرة، فقد جاءه حبيب بن مظاهر الأسدي، وهو في الرمق الأخير، وقال له: لولا أني في الأثر لأحببتُ أن توصي إلي بما يهمك. فقال مسلم لحبيب: أوصيك بهذا، يعنى الحسين .

الحب حبان؛ حب يصدر عن أهواء النفس وشهواتها، وحب يصدر عن وعي عميق ومعرفة دقيقة بالمحبوب، وشتان بين الحبين. عن الحبين تحدث القرآن فقال:﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ.

دمتم بحب ... أحبكم جميعا..

شاعر وأديب