ماذا بعد؟ السؤال الأهم

 

 

 

الإنسان الذي خُلق من عجل، غالبا ما يكون مشغولا بالآني العاجل، وناسيا أو تاركا للآتي الآجل. وهو ما عبر عنه القرآن الكريم خير تعبير في قوله تعالى في سورة القيامة:﴿ كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) .

بل حتى على مستوى العاجلة نفسها، أي الحياة الدنيوية، ينشغل الإنسان بالعاجل غير المهم عن الآجل المهم. لا أحد يجادل في أهمية الفحص الطبي الدوري الشامل للجسم كأداة هامة للتأكد من سلامته، وللتشخيص المبكر للأمراض. ولكن القليل من يمارسون ذلك لقابليته للتأجيل. نحن نذهب للطبيب حين نضطر لذلك بسبب الآلام المبرحة مثلا التي تضغط علينا. نفس الأمر ينطبق على صيانة السيارة أو البيت وبقية القائمة. قلة قليلة هم من يشغلهم الأهم الآجل على المهم العاجل، والكثرة الكاثرة هي المشغولة بالعاجل وإن كان غير مهم.
هذه حقيقة بسيطة، ولكن إدراكها في غاية الأهمية. فالأفراد الناجحون والمجتمعات المتفوقة دائما ما تقضي معظم وقتها في المربع الثاني كما يسميه ستيفن كوفي صاحب العادات السبع، أي في مربع الآجل المهم.

يقسم كوفي الأنشطة إلى أربع مربعات: المربع الأول: أنشطة هامة وعاجلة: وهي الأعمال المطلوبة على وجه السرعة ولا تحتمل التأجيل؛ مثل: الأزمات الطارئة سواء على مستوى العائلة أو المؤسسة, والأعمال المطلوب تسليمها فورا, وبعض المكالمات التليفونية والاجتماعات الهامة فعلاً!

المربع الثاني: أنشطة هامة وليست عاجلة: مثل التخطيط للمستقبل وتوقع الأزمات ومعالجتها قبل وقوعها, الاهتمام بالصحة وممارسة الرياضة واكتساب الثقافة والمعرفة, والاهتمام بشؤون الأسرة والأصدقاء،وغيرها.

المربع الثالث : أنشطة عاجلة وليست هامة: كالرد على المكالمات التليفونية العادية والخطابات سواء الشخصية أو المتعلقة بالعمل, أو الاجتماعات الدورية التي لا تقدم ولا تؤخر كثيرا بالنسبة لأهداف العمل, أو مثلا مشاهدة البرامج التليفزيونية والمباريات الرياضية.

المربع الرابع : أنشطة غير عاجلة وغير هامة : مثل معظم المكالمات التليفونية وأنشطة الترفيه وإضاعة الوقت، كالدردشة، وبعض برامج التلفزيون والفيديو وممارسة ألعاب الكمبيوتر وغيرها.

الآجل المهم إذن هو الذي ينظر للمستقبل البعيد، فيشمل التخطيط والتربية والصيانة والاستراتيجيات وأمثالها.

في واقعة كربلاء تجلى هذا الأمر تجليا تاما، إذ كانت الخيارات محصورة بين العاجلة والآجلة. اختار جيش يزيد وأتباعه العاجلة، واختار الحسين وأنصاره الآجلة، فأي الخيارين انتصر في النهاية؟

لقد حذر الإمام الحسين جيش يزيد من الخيار الخاسر، ولكنهم قوم لا يفقهون. خاطبهم عليه السلام بلغة واضحة تقرأ ما وراء الحدث، قائلا: أما إنه لا تلبثون بعدها إلا كَرَيثِ ما يُركَب الفرس، حتى تدور بكم دور الرحى. عهد عهده إلي أبي عن جدي، فأجمعوا أمركم وشركاءكم فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون. إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم.

ولأنهم اعتادوا العيش في العاجل دائما، انحازوا للعاجل أيضا في تلك اللحظات المصيرية، وهو ما أفصح عنه عمر بن سعد في نونيته حين قال: وهل عاقل باع الوجودَ بِدَينِ؟! حيث كان يرى العاجلة وجودا ملموسا، والآخرة دَينا قد يكون من الديون المعدومة أو المشكوك في تحصيلها. فكانت النتيجة كما قال تعالى عن قوم فرعون: ﴿وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ.

أما الذين تمسكوا بالخيار الرابح، خيار الآجلة، فإنهم استطاعوا أن يكتبوا أسماءهم بدمهم الطاهر، لا بماء الذهب على صفحة الخلود.

وقد صور ذلك عميد المنبر الحسيني المرحوم الشيخ الدكتور أحمد الوائلي في أبياته التي خاطب بها الإمام الحسين قائلا:

مثلتَ خيّرها ومثَّل شرَّها***نفرٌ فكنتَ سماً وكانَ صعيدا
وإذا أراق اليومَ زاكيةَ الدما***فغداً سترفعُها الشعوبُ بنودا
فرأيتكَ العملاقَ جيداً متلعاً***ينعى على الأقزامِ تُهطع جيدا
ورأيتُك الفكرَ الحصيفَ يشقُّ***أستارَ الغيوب ويستشفُّ بعيدا
ورأيتك النفسَ الكبيرةَ لم تكنْ***حتى على مَنْ قاتلوكَ حقودا
فعلمتُ أَنَّك نائلٌ ما تبتغي***حتماً وإن يكُ شلْوكَ المقدودا
وبأنَّ من قتلوكَ ودّوا عكسَ ما***قَدْ كانَ لو علموا المدى المقصودا
ظنّوا بأن قتلَ الحسينَ يزيدُهم***لكنَّما قتلَ الحسينُ يزيدا

أخيرا نقول: الأمور بخواتيمها، فلننشغل بالخاتمات، ولنسأل أنفسنا دائما عند كل قرار مفصلي: ماذا بعد؟


 

شاعر وأديب