شيفرة كربلاء

 

 

 

سؤال لا بد أنه دار ويدور في أذهان الكثيرين، حتى في الأوساط البحثية خارج الدائرة الإسلامية، وهو: كيف يمكن لواقعة كان كل نصيبها مقطعا زمنيا في غاية الضآلة (ساعات محدودة) أن تحتل الزمن كله بعدها؟ كيف يمكن لحادثة وقعت قبل أكثر من ألف وثلاثمائة سنة أن تستمر شعلتها متوهجة دون انطفاء ولو للحظة في مسيرة أولمبيادها التي لا ينتهي؟
ما إن يُذكر الإمام الحسين على المنابر المرتبطة باسمه في أي وقت من السنة، وفي أي مناسبة، ولو كانت يوم العيد، حتى يُحدث في النفوس تفاعلات كيميائية عصية على التفسير، حيث تبدأ في الاحتراق حزنا لتنتهي بالذوبان التام، مرورا بالدموع الحارقة المنصبة  صبا، ونشيج الآهات والزفرات المصاحب لها، مع أشكال تعبيرية مختلفة من الانفعالات اللفظية والجسدية.

أما الذروة فموسمها شهر المحرم في عشرته الأولى من كل عام، وذروة الذروة يوم العاشر، أو ما يعرف بعاشوراء. الملايين تخرج في كل أرجاء العالم متفاعلة مع الفاجعة التي تبدو وكأنها تنقل مباشرة على الهواء من موقع الحدث. ترى من أين للإمام الحسين هذه القدرة التعبوية الفريدة التي تعجز عن الإتيان بمثلها الأحزاب العتيدة رغم نفقاتها المليونية الضخمة بالعملات الصعبة لحث منتسبيها ومؤيديها على المشاركة في مهرجاناتها ومناسباتها الانتخابية؟

في العشرة الأولى من المحرم تسري في نفوس محبيه طاقة لا تشبه غيرها من الطاقات، تلهب في الجميع الحماس للحركة والنشاط والحيوية والبذل والعطاء والإبداع، فيرتفع منسوب الحزن الإيجابي الذي يطهر الداخل ويغير الخارج، ويشعر كل فرد بتصاغر عطائه مهما عظم أمام عظمة عطاء الحسين ، فيدفعه هذا للمزيد من الكدح للاقتراب من ساحة السخاء الحسيني. ما يحدث في العشرة الأولى شيء يفوق الوصف، ويستوعب كل الناس وكل الطاقات. لا توجد في قاموس الحسين طاقة معطلة أبدا.

الخطباء والأدباء والشعراء والكتاب والمثقفون والفنانون من ممثلين ورسامين ومصورين وخطاطين وأصحاب الحناجر الذهبية ومقدمو الخدمات المجانية من طعام وشراب وغيرهما وذوو الأيدي المعطاءة ماليا أو عينيا أو دعما فنيا والمتنقلون بين مجالس العزاء يأخذون من كل مجلس زادا يجدون فيه لذة روحية عميقة، والسائرون في مواكب العزاء في حركات إيقاعية متناغمة، كأنهم تدربوا عليها زمنا طويلا؛ كل هؤلاء يشكلون مشهدا بانوراميا لا يمكن أن تختزله عدسات المحترفين ولا كلمات الراسخين في فن تطويع الحروف.

ترى من أين للحسين هذه القوة الحضورية الهائلة في وجدان الصغير والكبير والمرأة والرجل وفي كل الميادين؟ وكيف تحولت كلماته إلى أيقونات رمزية يصدح بها المتلهفون للحرية والكرامة والعزة والإباء، ويرفعونها شعارات تزين الطرقات والأزقة؟ كلمات تعبر عن القيم الإنسانية الكبرى، وتشحذ الهمم للمغامرة في الشرف المروم. كيف تحدت تلك الكلمات عامل الزمن، وبقيت على جِدتها تزداد طراوة كل يوم، وتتفتق عن مدلولات بِكر لم يمسسها خيال من قبل؟ كلمات سمعناها كثيرا، ولكن مفعولها يمتلك القدرة على التجدد الدائم. كلمات من مثل:

- إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما.
- ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه؟ فليرغب المؤمن في لقاء ربه محقا.
- لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر لكم إقرار العبيد. أو (لا أفرّ فرار العبيد).
- هيهات منا الذلّة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون.
- خُط الموت على وُلد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف.

ولم يقتصر الأمر على كلماته، إذ انتقلت العدوى الصحية للأشعار التي قيلت فيه وفي مصيبته، فصيحها وعاميها، حيث يحفظها حتى الأميون ويتفاعلون معها تفاعلا لا ينخفض مؤشره أبدا. بل ارتقى بعضها في التأثير ليصبح كأنه من قول الإمام وما هو بقوله. فالشاعر الشيخ محسن أبو الحب (الكبير) نظم قصيدة في الإمام الحسين كان مطلعها:

إن كنتِ مشفقة عليَّ دعيني... ما زال لومك في الهوى يغريني
وفيها يقول:

إن كان دين محمد لم يستقم... إلا بقتلي يا سيوف خذيني

وهو البيت الذي صار الناس يرددونه وينسبونه خطأ للإمام الحسين .

نعود للسؤال الأول: كيف يمكن لواقعة كان كل نصيبها مقطعا زمنيا في غاية الضآلة (ساعات محدودة) أن تحتل الزمن كله بعدها؟

مفاتيح الجواب نجدها في مثل قول النبي : إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدا. وفي قول الإمام الحسن : لا يوم كيومك يا أبا عبد الله.

ولكننا نحتاج إلى اكتشاف شيفرة كربلاء التي يمكن أن نقدمها للعالم بطريقة علمية راقية، كي يتعرف على النهضة الحسينية المباركة كحدث إنساني فريد. هذا الاكتشاف يحتاج لتضافر جهود الفقهاء والمؤرخين والكتاب والأدباء والخطباء والفنانين وغيرهم، فالشيفرة الحسينية ليست بأسهل من الشيفرة الوراثية التي أحدث اكتشافها نقلة نوعية في التعرف على سر عظيم من أسرار الحياة.

شاعر وأديب