الاتفاق على الاختلاف

 

 

 

IN GOD WE TRUST (بالله نثق) هو الشعار المكتوب على العملة الأمريكية حاليا. هذا أمر معلوم لدى الجميع. أما قبل ذلك، فغير معلوم لدى الأغلبية. كان الشعار السابق هو ما ترجمته: الكثرة تنتج الوحدة، ونصه اللاتيني: E Pluribus Unum والذي يترجم إلى     "out of many, one."

(الكثرة تنتج الوحدة) كانت تعني أن التعددية تنتج وطنا موحدا، فوحدة الوطن الحقيقية لا تكون في القسر والإكراه والإلغاء والإقصاء لإنتاج قالب نمطي ظاهره الوحدة وباطنه التشظي والانقسام. لقد علمنا التاريخ أن الوحدة القسرية ما إن تتهيأ لها الظروف المناسبة حتى تنتج كثرة متناحرة، تماما كما حصل في يوغوسلافيا السابقة. فالوحدة الحقيقية التي يمكنها أن تستمر وتبدع هي تلك التي تقبل الآخر وتعترف به وتنظر إليه باحترام في إطار التنوع والتعدد.

وإذا كان القبول بالآخر المختلف مطلوبا في إطار الدولة، فإن درجة مطلوبيته تكون أشد في المجال الاجتماعي العام، لأن المجتمعات التي لا تقبل التنوع وتمارس القمع ضد بعضها الآخر لا يمكنها أن تنتج سلطة متسامحة حتى بعد الربيع العربي.
في مجتمعنا لا نزال نعيش حالة من الخوف والتوجس من الرأي الآخر، ففي البيت الواحد غالبا ما يسعى ما نسميه برب الأسرة إلى فرض هيمنته وسلطته على البقية، فيريدهم أن يكونوا نسخا متطابقة تشبهه في  التفكير والتحليل والاستنتاج وفي المتبنيات أيضا.

وحين يتمرد (عفريت) منهم فيخرج من بين القوسين، فإن مصيره المقاطعة والنبز وربما إعلان البراءة منه. وينتقل هذا السلوك إلى المجتمع، فلا يعود قادرا على استيعاب الآخر من داخله، فضلا عمن هو من خارجه.

وتبلغ الأمور ذروتها حين يكون موضوع الخلاف دينيا، فينبري الجميع من الطائفتين المختلفتين إلى استخدام الوسائل والأدوات الشعبية لإدارة الخلاف الذي يتحول إلى صراع اجتماعي، حيث إن إقحام ما ليس من أدوات الخلاف في الخلاف لا يزيده إلا تعقيدا.

عندما يختلف الفقهاء في مسألة ما، فإننا نفترض أن ذلك ليس مرده إلى الهوى والتعصب المقيت، وإلا فإن الفقيه لا يكون فقيها، لأن أحد شروط أهليته للرجوع إليه أن يكون (مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه) كما هو نص الرواية الشريفة. وبالتالي فإن هذا الاختلاف لا ينبغي أن يتسبب في تشنجات وتوترات وتحزبات وانقسامات حادة، فوظيفة المكلف معروفة عند الجميع، وينبغي أن تتم وفق ضوابطها الأخلاقية والشرعية في إطار الاحترام المتبادل للمرجعيات الدينية جميعها.

وبما أن الخلاف فقهي بحت، فإن من المفروض أن يعالج في إطاره الفقهي وبالأدوات العلمية الرصينة المتفق عليها عند أهل الصناعة، وليس في الشارع. ليس من الصحيح استخدام الأدوات الشعبية من قصائد وبيانات وبيانات مضادة للتحشيد مع أو ضد رأي فقهي. وحتى لو قلنا بأن أكثرية من الفقهاء تتبنى رأيا اجتهاديا معينا، فإن ذلك لا يجيز بحسب آراء الفقهاء أنفسهم قمع الرأي الاجتهادي الأقلي المخالف.

فالفقيه لا يجزم بأن حكمه في تلك المسألة مطابق يقينا للحكم الواقعي، بل هو ما انتهى إليه بعد إعمال أدوات الاجتهاد لديه، ولذا فهو يفسح مجالا للمناقشة والمباحثة والنقض والحل. هذا هو دأب علمائنا الأبرار على مر العصور والأزمان.

إن مجتمعنا بحاجة ماسة إلى التخلص من كثير من رواسب التسلط وآثاره، عبر الممارسة الفعلية للقبول بالتنوع والتعدد وحرية الاختيار، إذ لا يكفي القبول النظري المجرد. كما إنه بحاجة أيضا إلى تركيز قواه وجهوده فيما يعنيه أكثر، أقصد تنميته ورفعته وتلبية حاجاته وتحصيل حقوقه.

لنتعلم أن الكثرة تنتج الوحدة، ولنختلف في مناخ من الحب والود والاعتراف المتبادل، ولنتفق على السعي الجاد لتجنيب مجتمعنا كل ما يفتته، ولنعمل سويا يدا بيد من أجل مجتمع خال من التعصب، متطلع إلى صنع المستقبل الأفضل الذي تنشده وتستحقه الأجيال الصاعدة.

لنتعلم كيف نختلف باحترام.

شاعر وأديب