مجتمع المؤسسات المنعشة 6


 

 

قبل أكثر من عشرين سنة ، على ما أذكر، جرت في قريتي أكثر الانتخابات شفافية في العالم. أظن لو أن منظمة الشفافية العالمية اطلعت على التجربة لعممتها. ليس ذلك من باب المبالغة أو حبي الشديد لقريتي ،وهو شيء أفخر وأعتز به دون تعصب، بل هي الحقيقة.

حدث ذلك عندما اختلف أهل القرية على مسألة (العُمودية) كما يسمونها، والعُمودية من عُمدة، والعمدة في بلدي منصب بسيط لا يزال ساري المفعول رغم التطور التقني الهائل، يحتاجه الناس حاليا كمُعَرف لهم رغم أنه لا يَعرفهم ولا يَعرفونه في أغلب الأحوال.

العمدة في بلدي يدخل ضمن الخصوصية السعودية، وليس ضمن المفهوم العالمي للعمدة، أي لا يشبه منصب عمدة نيويورك أو لندن مثلا، حيث لا يترشح له هناك إلا النخبة. ذكرت تقارير إخبارية قبل أيام أن وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون قد طلب منها عمدة نيويورك الحالي مايكل بلومبرج الترشح لمنصب عمدة مدينة نيويورك بعد تقاعدها من إدارة أوباما الشهر المقبل .بلومبرج هو الملياردير المؤسس لموقع بلومبرج المعني بالأخبار والبيانات المالية، ويفكر حاليا في شراء مجموعة فايننشال تايمز. بلومبرج هذا يبحث عن خليفة له بعد انتهاء فترة ولايته الثالثة عام 2013 ، خليفة يتمتع بمواصفات العمودية النيويوركية التي هي حسب رأيه مزيج من سطوة النجومية والخبرة والشجاعة والعزم. ولذلك اختار السيدة كلينتون.

تلك مواصفات العُمودية عندهم. نعود لاختلاف أهل قريتنا الذي انتهى إلى حل المسألة ديمقراطيا عن طريق صناديق الاقتراع. وتم تحديد موعد لذلك، وكان المكان مقر الجمعية الخيرية باعتبارها مؤسسة منعشة لكل البلد. لم يكن التنافس على أساس برنامج انتخابي أو غيره من الأسس المعمول بها في الديمقراطيات الحديثة. كانت الأمور تدار بالبركة، وأظنها لا تزال كذلك. (الله لا يغير علينا) كما تقول عجائزنا. في اليوم الموعود جلس المتنافسان – رحمهما الله – وكان هناك صندوقان للاقتراع، هما حُضنا المتنافسَين. أما طريقة الاقتراع فكانت بإلقاء المقترعين حفائظ نفوسهم (بطاقة الهوية حاليا) في حضن من يرشحون. إذن المسألة مكشوفة وشفافة وعلى الهواء، ولا يشوبها أي تزوير. كما إن النتيجة سريعة جدا أي في غضون دقائق، حيث يتم حساب حفائظ النفوس في حضن كل مرشح، والفوز من نصيب الأكثر طبعا. هل شهد العالم انتخابات مثل هذه؟! هل غاليتُ في وصفها بأنها الأكثر شفافية؟

هذه الطريقة البسيطة العفوية في إدارة الأمور الاجتماعية لم تعد تصلح اليوم، ولكنها لا تزال حاكمة على كثير من مؤسساتنا الاجتماعية مع بعض التعديلات الطفيفة. في الجمعيات الخيرية وفي النوادي الرياضية بل حتى الثقافية لا يتم التنافس في الغالب على أساس من مواصفات فردية للأشخاص المرشحين، يُضاف إليها برامج انتخابية تنافسية. بل إن بعضها يظل يبحث عن مرشحين فلا يجد. أما الاقتراع وانتخاب المرشحين فيتم بناء على التضامنيات التقليدية في الغالب أيضا، أي على غير أسس موضوعية. فالصداقات والقرابات والعلاقات والانتماءات والشللية تلعب دورها في توجيه أصوات الناخبين وترسيخ (الحالة الفوارة). أما الكفاءات والإنجازات والبرامج فتكاد تختفي إلا ما ندر حتى لا نقع في شبهة التعميم. وهذا ما يعيق تحول مؤسساتنا الاجتماعية إلى مؤسسات تنتمي للمجتمع المدني بمفهومه الحديث، والذي يحتاج إلى مقالات مستقلة لشرحه. كما يعيق بالتالي تحولها إلى مؤسسات منعشة، حيث لا تتمتع بجاذبية كبيرة لذوي الكفاءات والخبرات الذين يبحثون عن (الحالة المؤسسية).

هناك شروط ومواصفات ينبغي توفرها في الفرد المؤسسي وفي المؤسسة المؤسساتية بدون توفرها سنبقى بعيدين عن مجتمع المؤسسات المنعشة. هذه الشروط ستكون محور حديثنا القادم بإذن الله بعد غد الجمعة.

شاعر وأديب