هدية من أجل عيون الحب

 

 

قد نقدم الهدية طمعا في أمر ما لدى الآخر وقد نقدمها تقديرا له ومكافأة، وقد نقدمها لوجه الله تعالى. الهدايا من النوع الأول في زماننا كثيرة، كالتي يتلقاها أصحاب المناصب من أجل توقيع معاملة، أو تسيير أمور خارج القانون، أو لدفع شر سلطتهم. فما داموا في المنصب تنصب عليهم الهدايا، وإذا غادروه حُبس المطر، فلا تنفع معه صلاة الاستسقاء. يبدو لي أن المنصب سمي منصبا عندنا نحن العرب لأنه موضع انصباب الثروات غير المشروعة، المنقول منها وغير المنقول. وهذا يكشف عن ذكاء خارق لدى واضعي اللغة الأوائل، حيث كانوا ينظرون بعيون المستقبل لمآل المنصب.

يتحدث الإمام علي عن حادثة حدثت له وهو في الكوفة خليفة على المسلمين. يأتيه أحدهم يقدم له شيئا من الحلاوة المعجونة (كالبقلاوة مثلا) ظنا منه أن الإمام سيقبلها، وستكون بالتالي طُعما لما بعدها. يقول عليه السلام: وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها، ومعجونة شنئتها كأنما عجنت بريق حية أو قيئها، فقلت أصلة أم زكاة أم صدقة فذلك محرم علينا أهل البيت. فقال لا ذا ولا ذاك ولكنها هدية. فقلت هبلتك الهبول، أعن دين الله أتيتني لتخدعني، أمختبط أنت أم ذو جِنّة أم تهجر. والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت.

في الدول المتقدمة، عندما يأتي شخص ما لمنصب كبير، فإنه يقدم إقرارا بذمته المالية، وعندما يغادر المنصب، يتم النظر في ثروته، وفقا لمبدأ: أنى لك هذا؟ أما الحال عندنا فهو منصوب من شدة النصب والاحتيال.

هذا عن هدايا المناصب. الهدايا الأخرى هي أولا هدايا المكافأة، والتي تأتي في مقابل هدايا مثلها، كإنجاز مشروع ما، أو كرد على هدية أخرى سابقة. وهذا النوع - أعني الرد على الهدايا بهدايا – منتشر في مجتمعنا بشكل كبير. وهو شيء جميل ومحبوب، غير أنه بدأ يأخذ منحى خاطئا، إذ يتم ربطه بمقدار وحجم الهدية. فكلما كانت الهدية أغلى ثمنا كانت في نظر البعض أكثر تعبيرا عن الحب، وهنا الخطأ. فالهدايا ينبغي أن تكون لغة رمزية لا ترتبط بالثمن. قيمتها الحقيقية في رمزيتها الدالة على محبة، وليس في قيمتها المادية. يقول النبي : "لو أُهدي إلي كُراع لقبلت". والكُراع لمن لا يعلم هي ما نسميه الكراعين أو الكوارع، أي ما دون الركبة من ساق الشاة أو غيرها.

النوع الثالث من الهدايا هو الهدايا من أجل عيون الحب؛ الهدايا التي لا تنتظر شيئا، أي الهدايا غير المشروطة. هذه الهدايا لها مفعول سحري في النفوس، كما ورد عن النبي المصطفى ، فقال: تهادوا تحابوا، فإنها تذهب بالضغائن.

وعنه أيضا: تهادوا فإن الهدية تسل السخائم، وتجلي ضغائن العداوة والأحقاد. وعنه : الهدية تذهب الضغائن من الصدور. وعنه : الهدية تورث المودة، وتجدُر الأخوة، وتذهب الضغينة، تهادوا تحابوا.

طبعا ليس بالضرورة أن تكون الهدية مادية، بل إن بعض الهدايا المعنوية أثرها أجدى وأبقى. فاحتضان الابن أو البنت وتشجيعهما بالكلمة الطيبة أعظم هدية، والابتسامة هدية رائعة، بل حتى النقد الجميل البناء يعتبر هدية متميزة. يقول النبي : « رَحِمَ الله امرأً أهْدى إلَيّ عيوبي ».

بل إن أفضل الهدايا كلمة، كما ورد عنه : إن أفضل الهدية، أو أفضل العطية، الكلمة من كلام الحكمة يسمعها العبد ثم يتعلمها، ثم يعلمها.

 هديتي لكم هذه الجمعة وكل جمعة: جمعة مباركة.. دمتم بحب.. أحبكم جميعا..


 

شاعر وأديب