نبي السلام

 

 

 

إن أسوأ ما يمكن أن يبتلى به مصلح من المصلحين أن يتم تحريف رسالته أو تشويهها لتصل لمتلقيها بغير ذات المضمون الذي يريده لها. وهذا ما حدث للرسالة الإسلامية الشريفة التي جسدها النبي خير تجسيد، ومثل قيمها خير تمثيل؛ فكان النموذج الإنساني الأعلى في عبادته ومعاملاته. كان مثال الأخلاق الرفيعة كما وصفه القرآن الكريم: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ.

يقول صاحب تفسير الميزان في هذه الآية: والآية وإن كانت في نفسها تمدح حسن خلقه وتعظمه غير أنها بالنظر إلى خصوص السياق ناظرة إلى أخلاقه الجميلة الاجتماعية المتعلقة بالمعاشرة كالثبات على الحق والصبر على أذى الناس وجفاء أجلافهم والعفو والإغماض وسعة البذل والرفق والمداراة والتواضع وغير ذلك.

وقد وصفه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بقوله: كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخّاب، ولا فحّاش، ولا عيّاب ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، فلا يؤيس منه، ولا يخيب فيه مؤمليه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث : كان لا يذم أحدا، ولا يعيره ، ولا يطلب عثراته ولا عورته. ولا يتكلم إلا في ما رجا ثوابه.

ومع كل ما اشتهر عن النبي على المستوى الأخلاقي والعبادي والإداري والاجتماعي والسياسي، وما أحدثه من تغيير جعل المستشرق مايكل هارت في كتابه (العظماء المائة) يعتبره الشخصية الأولى، مبررا ذلك بقوله: "إن اختياري محمداً ليكون الأول في أهم وأعظم رجال التاريخ قد يدهش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلي نجاح علي المستويين: الديني والدنيوي...

فهناك رسل وأنبياء وحكماء بدئوا رسالات عظيمة ولكنهم ماتوا دون إتمامها كالمسيح في المسيحية، أو شاركهم فيها غيرهم أو سبقهم إليهم سواهم كموسى في اليهودية، ولكن محمداً هو الوحيد الذي أتم رسالته الدينية وتحددت أحكامها وآمنت بها شعوب بأسرها في حياته، ولأنه أقام بجانب الدين دولة جديدة فإنه في هذا المجال الدنيوي أيضا وحد القبائل في شعب والشعوب في أمة، ووضع لها كل أسس حياتها، ورسم أمور دنياها، ووضعها في موضع الانطلاق إلي العالم، فهو الذي بدأ الرسالة الدينية والدنيوية وأتمها".

أقول مع كل هذا، فقد أُلصقت بالرسالة الإسلامية اليوم وبصاحبها الكثير من الأوصاف والنعوت المسيئة، كما في كتاب (آيات شيطانية) والرسوم الكاريكاتورية الساخرة بشخصية الرسول العظيم، والأفلام البذيئة الهابطة المشوهة لصورته . وبلغ التشويه مبلغه حين أصبح الإسلام مرادفا للعنف والإرهاب. ويمكننا أن نرجع ذلك إلى عوامل ثلاثة:

الأول: ما حفلت به كتب التراث الإسلامي من تصوير لمواقف بعيدة عن الخلق النبوي القرآني الرفيع تُنسب للنبي الكريم نفسه. 

الثاني: سلوك بعض المسلمين الذين اعتمدوا منهج العنف والتشدد والإقصاء حتى مع المشاركين لهم في الدين.

الثالث: تعمد بعض الدوائر الاستعمارية تشويه صورة الإسلام والنبي لأغراض لا تخفى على أحد.

من هنا فإن بيان سماحة الإسلام ودعوته للاعنف يحتاج إلى معالجة النقاط الثلاث مجتمعة.

وفي هذا المقال سأتطرق لأسلوب واحد من أساليب المعالجة، والذي يمكن أن نُلزم به حتى غير المسلم. يتمثل هذا الأسلوب بمراجعة الخطاب النبوي في مجال المكاتبات والمعاهدات لرصد مفردات السلم والسلام والتسامح فيها. وهو موضوع في غاية الأهمية. وقد تحدث عن ذلك المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي في كتابه (فقه العولمة)، فقال محللا الخطاب:

وكان رسول الله يراعي بالإضافة إلى العبارات الأدبية والكلامية في رسائله، الأبعاد التبليغية، والأهداف السياسية والدبلوماسية، فترى الأمور التالية ظاهرة في رسائله ورسله:

  1. الشجاعة والاعتماد الكامل بالنفس، فالشخص الدبلوماسي والرجل السياسي لا بد أن يكون مطمئناً ومعتمداً اعتمادا كاملاً على شخصيته في إبلاغ ندائه وثقافته ورسالته لمخاطبيه.
  2. الألقاب الرسمية المناسبة في تلك الرسائل، مثل: إلى هرقل عظيم الروم، إلى كسرى عظيم فارس، عظيم القبط، وغير ذلك.
  3. الترغيب والتهديد المعقول والمناسب في ضمن رسالة واحدة، مثل: ( أسلم تسلم ).
  4. الاستناد إلى الاستدلال والمنطق، عند ما يكون مخاطبوه من أهل الكتاب، ومن له ثقافة عالية، مثل  الرسالة التي بعثها إلى النجاشي ملك الحبشة.
  5. إبلاغ النداء النهائي للإسلام، وتحرير الإنسان، ونفي الاستثمار، وتشاهد هذه النقطة في خاتمة رسالته بآية : ( يا أَهْلَ الْكِتابِ ).
  6. بقاء واستمرارية أعمال الحاكمية والقدرة ونفوذ السلطة في حالة الاستجابة لنداء الإسلام وقبول حاكمية الدولة الإسلامية، كما يظهر من رسالته إلى هوذة بن علي ملك اليمامة، والحارث بن أبي شمر الغساني ملك دمشق، والتأكيد عليهما في الرسالتين.
  7. الاطمئنان من بسط نفوذه ( صلى الله عليه وآله ) وانتصار النداء، كما يظهر جلياً في ذيل رسالته إلى هوذة بن علي مشيراً إليه بقوله : « واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر ».

ويقول السيد جعفر مرتضى العاملي في موسوعته (الصحيح من سيرة الرسول الأعظم): إن الكتب التي أرسلها النبي إلى الملوك قد تضمنت دعوتهم إلى توحيد الله تعالى وإلى الإسلام.

ولم نجد فيها : أية إشارة إلى الحرب، ولا إلى إلزامهم بالجزية لو امتنعوا عن الإسلام. وذلك لأن الهدف هو نشر الدين بإطلاق نداء الضمير، والوجدان، والفطرة، والالتزام بحكم العقل، وإتمام الحجة عليه .  والقصد إنما هو إلى إسعاد الناس، وتوجيههم نحو الحياة الكريمة والطيبة، حيث العظمة والمجد، والسؤدد، من دون أن تكون هناك أي امتيازات ظالمة لأحد. وليس القصد الاستيلاء على بلاد الناس ولا قهرهم، أو إذلالهم، أو أي نوع من أنواع الإيذاء لهم.

من أجل ذلك نلاحظ: أن هؤلاء لم ينأوا في الأكثر بأنفسهم عن الإسلام، بل قَبِلَهُ بعضهم، وأجاب بعضهم بجواب لين، ظهرت فيه أمارات التردد، بسبب وساوس شيطانية، ومخاوف غير واقعية على ملكهم وسلطانهم، أو على بعض امتيازاتهم فيه.

إن تحليل خطاب المكاتبات والمراسلات والمعاهدات النبوية يكشف دون ريب جزءا من رسالة ثقافة السلام التي أراد النبي نشرها في العالم كله، وهو المبعوث رحمة للعالمين.

 

شاعر وأديب