مجتمع المؤسسات المنعشة 26

 

 

 

جاء في أحد الكتب المنعشة أن أحمد بن محمد القزويني – وكان شاعرا – دخل سوق النخاسين بالكوفة (أي سوق بيع الدواب) فقعد إلى نخاس، فقال: يا نخاس اطلب لي حمارا لا بالصغير المحتقَر ولا بالكبير المشتهَر، إن أقللت علَفه صبر وإن أكثرت علفه شكر، لا يدخل تحت البواري (أي المشبَّك، مما يدل على رسوخ ثقافة التشبيك عندنا) ولا يزاحم بي السواري (جمع سارية وهي الأسطوانة، أي قليل الحوادث تحبه شركات التأمين)، إذا خلا في الطريق تدفق (أي سار مسرعا دون أن يحسب حسابا لساهر)، وإذا أكثر الزحام ترفق (أي خفف السرعة). فقال له النخاس بعد أن نظر إليه ساعة مستغربا من مواصفات الحمار المطلوب: دعني. إذا مسخ الله القاضي حمارا اشتريتُه لك.

هذه القصة الطريفة أوردها عبد الرحمن بن الجوزي (ت 597 هـ) في كتابه (أخبار الحمقى والمغفلين من الفقهاء والمفسرين والرواة والمحدثين والشعراء والمتأدبين والكتاب والمعلمين والتجار والمتسببين وطوائف تتصل للغفلة بسبب متين).

الملاحظة الدقيقة الاستقرائية فعل حضاري يكشف عن وعي عميق يهتم بالتفاصيل وتفاصيل التفاصيل رصدا وتوثيقا وتركيبا وتأليفا واكتشافا للعلاقات بين المفردات المتناثرة من أجل دراسة ظاهرة من الظواهر ومعرفة ما وراءها. ولا يقف الاهتمام بالتفاصيل وتفاصيلها في المجتمعات المتقدمة عند حدود الدراسة، بل يهتم بذلك في المرحلة التالية أي ابتكار نموذج أو نماذج يمكن من خلالها تفسير الظاهرة وبالتالي ترويجها وتعميمها إن كانت إيجابية، أو الحد منها وعلاجها إن كانت سلبية. أما المجتمعات المسماة تخديرا نامية، فهي تمر على الظواهر دون أن تستوقفها أو تثير انتباهها، فضلا عن فحصها ودراستها.

واحدة من الظواهر السلبية لدينا هي ما نعانيه من نقص شديد في ثقافة الصحة النفسية في مجتمعاتنا العربية. فالمريض النفسي عندنا يُنظر إليه ويُعامل معاملة المجانين، والمرض النفسي هو سر يجب إخفاؤه حتى عن أقرب الناس لأنه ضرب من الجنون، والذهاب للطبيب النفسي آخر ما تفكر فيه أسرة المريض. قد يأخذونه للشيخ الفلاني ليقرأ عليه، وقد لا يمتلك هذا الشيخ أي ثقافة نفسية تؤهله للتعامل مع المريض، أو لمشعوذ محترف، كل ما يجيده شفط الأموال وتصفير الجيوب، ولكنهم لا يأخذونه للعيادة النفسية المختصة، ويصرون أن يتعاملوا مع المريض تعاملهم مع الأصحاء.

وقد كشف نائب مدير مجمع الأمل للصحة النفسية بالمنطقة الشرقية الدكتور عبد السلام الشمراني في حديث له عن أن وصمة العار المصاحبة للمرض النفسي دفعت بـ90 % من المرضى النفسيين للرقاة الشرعيين، قبل مراجعتهم للمستشفيات النفسية. واعتبر أن أكبر عائق يواجه المرضى النفسيين و أهاليهم في تلقي العلاج السليم هو وصمة المرض النفسي، فما إن يذكر أن الشخص مريض نفسيا حتى يوسم بالجنون أي يصنف على أنه مريض ذهانيا، في حين أن 80% من الأمراض النفسية هي عصابية وليست ذهانية... وتكون عواقب هذه الوصمة التقليل من الفرص المتاحة أمام المريض للعلاج المبكر ودمجه في المجتمع وتقديم الدعم والمساندة الاجتماعية له من الأهل والجيران والأصدقاء.

يضاف لهذا الواقع السيئ قلة الكوادر العربية المتخصصة، والنقص الكبير في المنشآت الصحية النفسية. ففي مصر مثلا - كما ذكر الدكتور حسين زهدي الشافعي استشاري الطب النفسي في مقال له بجريدة الوفد في 27 سبتمبر 2011 -  أن عدد الأطباء النفسيين فيها 600 طبيب فقط، وأن عدد العيادات الخارجية للصحة النفسية في مصر حوالي 60 عيادة خصصت عيادتان فقط لخدمة الأطفال والمراهقين.

وإذا كان هذا هو الحال في مصر التي تعتبر متقدمة عربيا في هذا الصدد، فما بالك بغيرها؟

وإن أردت أن تزداد كآبة فيمكنك عقد مقارنة سريعة بين موقع (ريحانه)، وهو موقع على الانترنت تحت إشراف الجمعية السعودية للطب النفسي، وبين موقع الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين (APA) . في موقع (ريحانه) هناك إعلان عن المؤتمر العالمي الأول للجمعية السعودية للطب النفسي والذي انعقد عام 1431 ه، ولا يزال الإعلان ساري المفعول في عام 1434؛ بينما يحفل الموقع الآخر بآخر التحديثات.

إن المسؤولية كبيرة على عاتق المختصين بالصحة النفسية في مجتمعنا للقيام بدور فاعل من خلال إنشاء مؤسسة تعنى ببث الوعي والثقافة الصحية النفسية، وتطبيع العلاقة بين الناس والطبيب النفسي.

شاعر وأديب