واقعنا المرير ومسؤولية التغيير

 

 

المشهد الراهن في الواقع الإسلامي والعربي مشهد يبعث على الإحباط. فما حسبناه ربيعا عربيا تنتعش فيه أزاهير الحرية والكرامة وحقوق الإنسان، وتولد فيه دولة المواطنة الحديثة، دولة المؤسسات وسيادة القانون؛ حيث المساواة والفرص المتكافئة والمشاركة الشعبية في صنع القرارات السياسية، تحوّل إلى خريف عاصف يسوده الخطاب المأزوم ذو النزعة الاستئصالية. لقد توارى الحديث عن التسامح والتعايش وقبول الآخر، وتصدر المشهد خطاب الفرقة والتباغض والتناحر. الذين في الواجهة اليوم هم أولئك الأقدر على إثارة الجماهير عاطفيا وغرائزيا وعصبويا. أما أصحاب الخطاب العقلاني المتزن الحريص على تمتين الروابط بين مكونات الأمة، والداعي إلى نبذ الخلافات، وتعميق المشتركات فإنهم يعانون من هبوط الأسعار الحاد الذي أصاب بضاعتهم في سوق بورصة الخطابات.

لماذا حدثت هذه الارتكاسة؟ لماذا ينتصر الخطاب الطائفي البغيض اليوم على خطاب الوحدة؟ لماذا تتجه الأمور إلى حافة الهاوية، فنكون قاب قوسين أو أدنى من حروب الطوائف والتقسيم؟ ثم من المسؤول عن إيقاف التدهور والانتصار للعقل؟

قد يقال بأن السلطات السياسية هي من تمسك خيوط اللعبة، وهي التي يمكنها بالتالي إيقاف الانزلاق. وهذا صحيح لحد بعيد، لكن منطق التاريخ يخبرنا أن السياسي لا يقدم تنازلات مجانية، فما دام اللعب على الوتر الطائفي يصب – كما يعتقد – في استمراره وبقاء مصالحه، فلماذا يقوم بارتكاب حماقة ضد نفسه وينهي الصراع؟! إذن فلتستمر اللعبة، ولينشغل الناس بالناس، ولتهدر طاقات الأمة في طواحين الهواء الدامية!!.

فالسياسي صاحب السلطة بناء على هذا لن يتغير حتى تتغير قواعد اللعبة، وهو ما ينبغي أن تدركه النخب الواعية التي يمكنها وحدها أن تشكل الكتلة التاريخية القادرة على إحداث التغيير المرجو. لقد تخلت – وللأسف لشديد – الكثير من النخب المثقفة عن دورها التنويري المنشود في الأمة، وتماهى بعضها مع السلطة تماهيا تاما، وأصيب البعض الآخر بالهزيمة النفسية؛ مما وسّع دائرة الممكن لدى ممتهني السلطة، وضيقها عند معارضيهم، والسياسة فن الممكن كما يقولون، ولكن السؤال: من يصنع هذا الممكن؟. أظن أن المسؤولية الأولى تقع على النخبة. في أوروبا تحملت النخبة مسؤوليتها التاريخية، فبذلت الغالي والنفيس، وكان التنوير. لذا فإن أسوأ ما يمكن أن تبشرنا به بعض النخب وتشيعه بيننا هو ثقافة العجز وأخلاقيات الهزيمة والاستسلام للواقع المرير، لأن ذلك يمثل خيانة لضميرها ووعيها، ويشكل تضادا صارخا مع دورها المأمول.

يتحدث الشهيد السيد محمد باقر الصدر عما يمكن أن يحدث للأمة نتيجة إصابتها بالهزيمة النفسية، قائلا: "إن الأمة حال تعرضها للهزيمة النفسية، وفي حال فقدانها لإرادتها وعدم شعورها بوجودها كأمة، تنشأ لديها تدريجيا أخلاقية معينة هي أخلاقية الهزيمة. وأخلاقية الهزيمة هذه تصبح قوة كبيرة جدا بيد صانعي هذه الهزيمة، لإبقاء هذه الهزيمة وتعميقها وتوسيعها؛ فيصبح الإقدام تهورا، ويصبح الاهتمام بما يقع على الإسلام والمسلمين من مصائب ومحن نوعا من اللاعقلانية. وأخلاقية الهزيمة هذه تصطنعها الأمة لتسوغ الهزيمة، وتشعر بأنها قد انتهت مقاومتها وقُرئت عليها الفاتحة، فتنسج مفاهيم جديدة غير مفاهيمها الأولى، وتتبنى قيما وأهدافا غير التي كانت تتبناها، أو لكي تبرر موقفها أخلاقيا ومنطقيا لأنها لا تشعر بكرامتها".

نحن أمام منعطف تاريخي هام، فإما أن تقوم النخب بتحمل مسؤولياتها ببث الوعي ووأد الفتنة، أو أن تمارس الصمت وتشويه الحقائق طمعا في مغانم آنية، أو خوفا من بطش الآخرين، فتقع الكارثة.

 

شاعر وأديب