هو العدالة

 

 

في زمن ضاعت فيه العدالة الإنسانية بين الاستبداد من جهة وازدواجية المعايير من جهة أخرى؛ وفي زمن تتعرض فيه صورة الإسلام للتشويه المتعمد من قبل أعدائه، وغير المتعمد من قبل بعض أبنائه؛ تكون الحاجة ماسة جدا للحديث عن هذه القيمة العليا عند قطب من أقطاب الإسلام يجمع المسلمون كافة على شرف مكانته، وعظيم مقامه، واندكاكه بالإسلام اندكاكا لا يقبل الانفصال أبدا.

فقد كان ربيب رسول الله والمتلقي الأول عنه، وهذا ما عبر عنه عليه السلام بقوله: "ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما ويأمرني بالاقتداء به.

ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري.

ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وخديجة وأنا ثالثهما. أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة".

إن الحديث عن (العدالة الإنسانية) في منظور الإمام علي يكتسب أهمية قصوى لقربه من منابع الوحي الصافية أولا، وللتراث الكثير الوارد عنه حول هذه المسألة الحساسة ثانيا؛ بخاصة أنه تراث يزاوج بين القول والفعل، والنظرية والممارسة، أي إنه لم يكن تراثا تجريديا، بل هو تجريبي نزل إلى أرض الواقع واختلط بترابها وتعقيداتها ومنحنياتها الصعبة والشائكة.

ومن الغريب جدا أن أول من أفرد كتابا ضخما لهذا الموضوع شخص من خارج الدائرة الإسلامية، هو الأستاذ الأديب جورج جرداق في كتابه القيم (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية)، والذي اعتبره الشيخ محمد مهدي شمس الدين -في كتابه (دراسات في نهج البلاغة)- فتحا جديدا في عالم التأليف ونصرا لحرية الفكر وللبحث النزيه.

كان أولى بنا نحن المسلمين أن نلتفت للجواهر التي بأيدينا قبل أن ينبهنا لها الآخرون، ولكننا وللأسف انشغلنا بالسفاسف والتوافه والخلافات والانشقاقات وكل ما يفرقنا، فتاهت بنا السبل، وغابت قيم العدل والقسط والحرية والأخوة والمساواة والشورى وغيرها من القيم الإنسانية الكبرى عن مفردات ثقافتنا وتفكيرنا وكتاباتنا. ولعل من أهم تلك القيم التي أهملناها كثيرا هي قيمة العدالة، برغم ما حظيت به في النص القرآني من تأكيد بالغ يظهر بوضوح لكل من تتبع مفردتي العدل والقسط في القرآن الكريم؛ كما  في قوله تعالى: " قل أمر ربي بالقسط" وفي قوله "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" وفي قوله  "لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ".

أشرنا إلى أن مفردة العدالة تحضر بقوة في نصوص الإمام علي وبصور مختلفة، نذكر بعضها:

1- عدم إقرار الظلم مسؤولية شرعية على العلماء:

يقول في أحد نصوصه مبينا أهمية التحرك لرفع الظلم وتطبيق العدل: لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ اللَّه على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها.

يقول المرجع السيد محمد الشيرازي في (توضيح نهج البلاغة): بمعنى أن اللَّه عهد إلى العلماء أن لا يسكتوا على ظلم الظالم للمظلوم بأن يأكل حقه، فلا يجد المظلوم ما يتقوت به بينما يأكل الظالم حتى يمتلئ ويكظ بطنه - كناية عن حرمان ذلك وإتخام هذا.

2- لا محاباة في تطبيق العدل:

يقول : "الذّليل عندي عزيز حتّى آخذ الحقّ له، والقويّ عندي ضعيف حتّى آخذ الحقّ منه". ويقول أيضا: " والله لو وجدته (أي المال المأخوذ بغير حق) قد تُزُوّج به النّساء، ومُلِك به الإماء، لرددته، فإنّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق."

وكتب إلى بعض عماله: فاتّق الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم ، فإنّك إن لم تفعل ثمّ أمكنني الله منك لأعذرنّ إلى الله فيك ، . . . ووالله لو أنّ الحسن والحسين فعلا مثل الَّذي فعلت، ما كانت لهما عندي هوادة ، ولا ظفرا منّي بإرادة، حتّى آخذ الحقّ منهما، وأزيح الباطل عن مظلمتهما.

3- تفضيل العدل على الجود:

سئل عليه السّلام: أيّهما أفضل: العدل أو الجود فقال عليه السّلام : العدل يضع الأمور مواضعها، والجود يخرجها من جهتها. العدل سائس عام، والجود عارض خاص. فالعدل أشرفهما وأفضلهما.

4- نزاهته الشخصية وبراءته من أي ظلم:

فكثيرون يجيدون الحديث عن العدل، ولكنهم عند التمحيص يسقطون؛ أما هو فكان بحق شهيد العدالة. يقول عليه السلام: "والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهداً، أو أجرّ في الأغلال مصفداً، أحب إلى من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد وغاصباً لشيء من الحطام".

إن سيرته عليه السلام ورسائله إلى ولاته وعماله خير شاهد على الحضور المكثف للعدالة عنده، فالعدالة كانت سيرته دائما حتى مع ألد أعدائه، بل حتى مع قاتله. ولا يمكننا هنا استقصاء تراثه حول العدل وضده أي الظلم، وما أردناه في هذا المقال هو الإشارة العابرة فقط لشخصية مثالية واقعية للعادل المستنير في نسخته الإسلامية، وتذكيرا بقيمة العدل الغائبة عن مجتمعاتنا العربية والإسلامية.

 


 

شاعر وأديب