أين موقفنا العملي؟

 

 

أن نستذكر الشخصيات العظيمة التي تركت بصمات رائعة في سجل التاريخ الذهبي فهذا أمر مطلوب، لما فيه من تقدير لها، واستحضار لمواقفها المشرفة.

لكن الانتقال إلى الموقف العملي عن طريق استخلاص العبر والمحاولة الجادة لتمثل سيرتهم وإعادة إنتاج القيم الرفيعة التي جسدوها في حياتهم هو الأكثر مطلوبية دون شك.

فالعظماء الحقيقيون لا يزيدهم تعظيمنا لهم في عظمتهم شيئا، بل إن تعظيمنا الحقيقي لهم يعود نفعه علينا أولا، لأنه يجعلنا نقترب من ساحتهم ومن مناهلهم العذبة التي نحن في أشد الظمأ إليها.

وهذا ما أكد عليه القرآن الكريم حين ركز على مسألة الاستضاءة بهدي المهتدين في قوله تعالى: ﴿أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ، وحين جعل الرابطة الأساس للقرب من العظيم اتباع نهجه، فقال تعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا حاسما بذلك الجدل بين أهل الكتاب حول من هو الأولى بالنبي إبراهيم.

فالمسألة مبتنية على القرب من والبعد عن المنهج، فالأقرب من هدي العظيم أولى به من غيره.

 نسوق هذه المقدمة لنستذكر شخصية لا يختلف على عظمتها اثنان، وهو الإمام موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، الذي قال عنه سبط بن الجوزي في (تذكرة الخواص): ويلقب بالكاظم والمأمون والطيب والسيد، وكنيته أبو الحسن، ويدعى بالعبد الصالح لعبادته واجتهاده وقيامه بالليل. وقال الذهبي في (ميزان الاعتدال): وكان موسى من أجواد الحكماء، ومن العباد الأتقياء.

نستذكر الإمام الكاظم ونحن في أمس الحاجة للاقتباس من هديه المبارك في شتى أبعاده، والذي لا يمكن استيعابه في مثل هذه العجالة. لذا سأكتفي بشذرات منه، متبعا كل شذرة بسؤال:
الشذرة الأولى: قال الخطيب البغدادي عنه في كتابه (تاريخ بغداد): كان سخيا كريما، وكان يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه، فيبعث إليه بِصُرَّة فيها ألف دينار.

السؤال: أين نحن من هذا السلوك الذي يقاوم الشر مقاومة إيجابية، فيدفعه بالتي هي أحسن؟ هل يمكننا أن نمارس فعلا مشابها تجاه مناوئينا؟!

الشذرة الثانية: وتتضمن موقفا يحكي عن حلمه وكظمه للغيظ، وقدرته الفائقة على إدارة المواقف والاستجابة الواعية لحالات الاستفزاز المتعمدة. فعن حمّاد بن عيسى، قال: بينا موسى بن عيسى في داره التي في المسعى يشرف على المسعى، إذ رأى أبا الحسن موسى مقبلا من المروة على بغلة، فأمر ابن هيّاج رجلا من همدان منقطعاً إليه أن يتعلّق بلجامه ويدّعي البغلة، فأتاه فتعلّق باللجام وادّعى البغلة، فثنى أبو الحسن رجله فنزل عنها وقال لغلمانه: خذوا سرجها عنها وادفعوها إليه.
 
 هكذا، وانطلاقا من كريم أخلاقه، وترفعه عن السفاسف، وحفظا لماء وجه المدعي الكاذب، دفع الإمام بغلته له. أما لماذا لم يعطه السرج أيضا، فلأنه ليس ملكا له كما تقول بقية الرواية.
السؤال: كم مرة في اليوم تنفلت منا أعصابنا عند أدنى إثارة أو استفزاز، فنفقد رشدنا ونتصرف بحماقة نندم عليها لاحقا؟!
الشذرة الثالثة: أحضر الإمام وُلدَه يوما فقال لهم: يا بَني إني موصيكم بوصية فمن حفظها لم يضع معها، إن أتاكم آتٍ فأسمعكم في الأذن اليمنى مكروها ثم تحول إلى الأذن اليسرى فاعتذر وقال: لم أقل شيئا، فاقبلوا عذره.

السؤال: هل نستطيع فعل هذا؟ هل يمكننا ممارسة العفو والتسامح بهذه الصورة المثالية والتي تبدو أقرب إلى الخيال، حيث نتجاهل ما نحن على يقين منه ونشطبه من ذاكرتنا سريعا كي نفسح للآخر مجالا للاعتذار؟!

لا شك أن الأمر صعب جدا على النفس، ولكن آثاره عميقة جدا، وقد ورد التأكيد عليه كثيرا. روى الشيخ  الصدوق في كتاب الإخوان عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: إن بلغك عن أخيك شيء وشهد أربعون أنهم سمعوه منه فقال: لم أقل لم أقل، فاقبل منه.

الشذرة الرابعة والأخيرة: حين تم إيداعه السجن ظلما وعدوانا من قبل السلطات الغاشمة، قام بتحويل محنته إلى منحة ربانية شكر الله تعالى عليها لأنه استطاع التفرغ للعبادة والطاعة. هذا ما نقله أحد الموكلين بمراقبته. يقول: كنت أسمعه كثيرا يقول في دعائه : اللهم إنني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت فلك الحمد.

السؤال: هل تأسرنا المحنة في سجنها الكئيب، أم أننا نستطيع أن نرى النصف الآخر من الكأس، بل نرى ما خلف الأسوار بعين البصيرة الثاقبة، فنعيد صياغة رسالة الإمام الكاظم الموجهة لهارون الرشيد، والتي ذكرها الذهبي في (سير أعلام النبلاء) والتي تقول: إنه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلا انقضى عنك معه يوم من الرخاء حتى نفضي جميعا إلى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون.

 

 

شاعر وأديب