العقل البشري أم كلام المعصوم؟
العقل البشري أم كلام المعصوم؟
لقد وصلت البشرية في هذا العصر إلى مستوى "عال" من التطور العلمي، فتولد تساؤل حول الحاجة إلى النصوص الدينية أو الحاجة إلى وجود المعصوم الذي يقود البشرية.
ويطرح البعض أن البشر كانوا في الماضي يحتاجون إلى المعصوم، ولكن العقل البشري اليوم وصل إلى مرحلة من العلم يستطيع فيها أن يقرر مصلحته دون الحاجة للنصوص الدينية أو المعصوم.
كما يطرح آخرون أن العقل هو المقياس في أخذ النصوص أو ردها وفي تطبيق الأحكام الفقهية أو تركها.
وعلى الجانب الآخر، يركز البعض على النص ويقصي دور العقل في فهم النص وطريقة تطبيقه.
سؤال:فهل نطيع عقولنا أم إمامنا المعصوم؟
أولاً: لا تعارض بين الدين والعقل أو العلم على الاطلاق،فالنصوص الدينية و"الحقائق" العلمية يؤازر كل منهما الآخر بحيث أنه يصعب علينا حصر ذلك لكثرته. وحسبنا أن دور العقل هو مكمل لدور المعصوم بحيث يستطيع به الإنسان فهم كلام المعصوم والإبداع في استخراج المزيد من الفوائد من ذات النص القديم الذي نقل عن المعصوم، وقد ورد عن الإمام الكاظم:"يا هشام: إنّ لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأما الباطنة فالعقول" .
ولكن التعارض بين بعض نصوص الدين والعقل هو اشتباه يعرض لبعض الناس في زمن ما بسبب قصورهم في فهم الدين فهماً عميقاً أو لنقص في العلم وسرعان ما يمر الزمن ويتضح بالطرق العلمية الصحيحة أنه لا تعارض.
ثانياً: إذا رأيت تعارضًا بين أحد النصوص وبين العلم (الناتج عن العقل البشري)، فابحث عن منطقة الخلل.
هل رأي العلم هو مجرد تجربة أم فرضية أم نظرية أم حقيقة علمية؟ هل روعيت المقاييس العلمية الصحيحة في هذا الرأي؟ هل يوجد تعارض حقيقي مع النص أم مجرد خطأ أو سطحية في الفهم للنص؟ هل هذا النص ثابت ومسلم به؟
ثالثاً: لنقارن بين العقل البشري والعلم الذي ينتج منه وبين النص الثابت صدوره عن المعصوم.
إن العقل المجرد من سلاح المعرفة لا يستطيع إثبات أو نفي أي أمر فكري عميق. ولكن العلم الذي يعتمد عليه العقل في إصدار الأحكام هو علم ناقص باتفاق البشر بما فيهم العلماء، فلا أحد يدعي اليوم أن العلم كامل.
والعلم الناقص لا يمكن الاطمئنان إلى صحة استنتاجاته وهذا ما يقوله العلماء، فـ "العلم يستطيع أن يثبت خطأ معلومات كثيرة، لكنه لا يستطيع إثبات صحة أي معلومة بشكل قطعي". إذا، فالعلم والعقل يغير آراءه من وقت لآخر حسب ما يتوفر له من دلائل، وهذا قد يرفع أي تعارض قد يبدو مع النص الديني في زمن من الأزمان لنقص في العلم لا في الدين، وقد حدث هذا كثيرًا في الماضي كما في قضية الزنا وقضية لحم الخنزير وغيرهما مما لا يتسع المجال لذكره. كذلك، هذا العلم هو صادر عن عقل بشري محدود يتأثر بالبيئة المحيطة فيصبح متحيزاً إيجابًا أو سلبًا وبطريقة لا إرادية في الكثير من الأحيان، وهذا ما يقوله العلماء اليوم، وعقل كهذا لا يمكن الاعتماد على حكمه في مقابل كلام المعصوم الذي لا توجد به مثل هذه الثغرات.
في الجهة المقابلة، الإمام المعصوم لا يحتاج لعلم ناقص ومحدود ولا يتأثر بالبيئة المحيطة ولا تغير مستوى الأدلة المتاحة من زمن لآخر ولا يتحيز ولا يسهو ولا ينسى. إذاً، فإن المعصوم لا توجد لديه نقاط الضعف الموجودة في العقل والعلم البشري مما يجعل من طاعته وإن تعارض كلامه مع بعض الآراء العلمية أمرًا منطقيًا وعقلائيًا.
هذا إذا "افترضنا جدلاً" أن هنالك تعارضا بينهما. ولكن لماذا نرى جموعاً ممن يتسمون بـ"المثقفين" ينادون بتقديم العلم على النصوص الدينية؟
إن ذلك هو نتيجة ردة فعل هوجاء ضد طغيان الكنيسة الأوروبية وقمعها للعلم، ولكننا لا نرى مثل هذا العداء للعلم في الإسلام الصحيح إطلاقا فما المبرر لهذا التوجه عند بعض مثقفينا؟ إنه التبعية الثقافية والترديد الببغائي لما يقوله الغير، حتى صرنا نتبنى قضايا هم يعانون منها وإن كنا غير مبتلين بها!!
رابعا: لقد أثبتت التجارب البشرية الحاجة إلى المعصوم وإلى علمه لأن العقل البشري-وحده- قد أثبت عجزه عن الوصول إلى القمة. وهذه الحضارات السابقة التي وصل بعضها إلى مستوى علمي يعتقد بعض العلماء أنه أعلى حتى من مستوى تطورنا اليوم بكثير،كما في حضارة الفراعنة، أكبر دليل على هذا فقد سقطت تلك الحضارات رغم ما وصلت إليه من التقدم. ونحن في هذا العصر لا ينبغي أن نطغى ونغتر بمستوى التطور الذي نراه ونعتبر أننا قد بلغنا القمة.
فلننظر للأمور بواقعية ومنطقية و لنحكم بعيدًا عن الشعارات البراقة والكلمات الرنانة. إن البشر في القرون الأخيرة الماضية، وفي أوج حضارة العصر الحديث، توصلوا إلى نظريات اعتبرت قمة الحضارة والطريقة الأمثل لسعادة البشرية في وقتها –ولا يزال يعتبر بعضها كذلك- ولكن بعد تطبيقها اتضح أنها كانت وبالاً على البشرية ولم يتوقف الأمر عند ذلك فقط وإنما أضر بعضها البشرية في نفس الجوانب التي كان يفترض أن يسعد البشرية فيها.
وهنا أذكر بعض الأمثلة على ذلك في النظريات الاقتصادية والسياسية. كما أنني سأذكر نقاط الخلل ذكرًا مختصرًا وعابرًا لأنني لست هنا بصدد الحكم على هذه النظريات والتجارب وصحتها وإنما لتبيين جوانب الضعف فيها فقط للاستدلال على أن العقل البشري مهما تطور فهو لا يضمن الوصول لما ينفع الإنسان بصورة حتمية وكاملة.
1. الثورة الصناعية : ابتدأ عصر الآلة الميكانيكية، وامتلأت المصانع بالبشر فاندهش العالم بمستوى التطور التكنولوجي الذي وصل له الغرب.و ظهرت بعض النظريات التي تحدد قيمة الإنسان بقدر عدد الساعات التي يعملها وقدر الحضارات بمستوى استغلالها للثروات الطبيعية فقط وكل نظرية تعارض هذا التوجه فلا بد من التخلص منها ولو بالقوة (العنصرية).
وبعد مرور سنوات طويلة على هذه الثورة، ظهرت آثارها المدمرة على البشرية. فقد أدت إلى تنافس كبير على الثروات حتى صارت الكرة الأرضية مقسمة كمستعمرات عسكرية واقتصادية بين الدول الغربية، ولا تزال الدول الكبرى تتنعم في الخيرات المسروقة التي يموت أصحابها جوعاً اليوم نتيجة للاقتصاد غير المستقل. هذه الحركة الاستعمارية التي انطلقت كنتيجة للثورة الصناعية و كوسيلة لدعم التقدم الاقتصادي تحولت إلى حرب طاحنة في أوروبا قتل فيها نحو 20 مليون إنسان وتدهور اقتصاد بعض الدول. ولم ينتهي الأمر عند ذلك، فسرعان ما نشبت حرب عالمية ثانية أحرقت الأخضر واليابس وحولت المدن الغربية والشرقية التي صرفت أموال الثورة الصناعية على إعمارها إلى أطلال وكومات حجارة تتجول بينها الكلاب والحيوانات التي تقتات على الجثث البشرية المنتشرة، فقد قتل في الحرب 60 مليون من البشر تقريباً. وبعد الحرب، لم يتعلم الناس من أخطائهم وعادوا لمنطق استغلال الطبيعة بالطرق البعيدة عن القيم الأخلاقية مما أدى إلى تلوث ضخم. وها نحن اليوم نعاني من خطر الاحتباس الحراري الذي لا يهدد البشرية فقط وإنما يهدد وجود الكثير من الكائنات الحية التي انقرض بعضها بالفعل في بعض الأماكن ومئات الأنواع على طريق الانقراض كالبطريق. إن آثار الجشع البشري على البيئة لا تقل عن آثار الأسباب التي أدت إلى انقراض الديناصورات وأغلب الكائنات الحية في ذلك الوقت!! كما قسم العالم إلى متقدم ونامي.
2. الوطنية: نتيجة لانتشار الاشتراكية في العالم الغربي، خافت الحكومات البروجوازية الليبرالية من ثورات العمال الاشتراكيين فقررت احتواءهم عبر إدخال المعتدلين منهم في الحكومات لضربهم من الداخل ولكن ذلك ساعد في ظهور الوطنية. و استغل البروجوازيون فترة الاستعمار فاخترعوا الشعارات الداعمة للوطنية لاحتواء العمال الذين انقادوا خلف هذه الشعارات التي تنافي مبادئ الاشتراكية الهادفة لإزالة الحواجز بين العمال في مختلف البقاع.
كان للوطنية دور كبير في نشوب الحربين العالميتين وأغلب الحروب الأخرى في العالم، كما أدت إلى تقسيم الناس بطريقة لم تعرف من قبل في التاريخ البشري ليس في أوروبا فقط وإنما نقل هذا المنوذج لكل العالم بواسطة القوى المستعمرة، فأدت إلى تفتيت أمم وشعوب، وإلى دمج أخرى متصارعة في بلد واحد مما زاد الأمر سوءً، فأصبحت عدة قوميات لا تتشارك في شيء تشكل بلدًا واحداً.
وقد ذهبت في سبيل هذا التقسيم ملايين الأرواح وما زال العداد مستمرا حتى اليوم.
كما باعتباره غير وطني وغير موالي لوطنه. ولا ننسى أن نذكر التمييز ضد الجاليات الأجنبية ووضع القيود على الهجرة والقيود الاقتصادية. وللأسف، عندما نادى فقهاؤنا ضد الحدود والأوطان الخرافية والمصطنعة واعتبروا ذلك ضد تعاليم الإسلام، اعتبر أدعياء الحداثة ذلك تخلفا وفوضى، ولكن عندما أدرك الغرب مساوئ هذه الحدود وقررت أوروبا تسهيل التنقل بين دولها، اعتبر ذلك تقدمًا كبيرًا لا بد لنا من اتباعه في بلداننا!! فهل هذا إلا عين التبعية الثقافية واحتقار الذات؟!
3. الليبرالية:إن الليبرالية التي ينادي بها البعض اليوم تختلف عن الليبرالية الحقيقية التي انطلقت في القرن الثامن عشر الميلادي وإن كانت بعض الشعارات لا تزال هي نفسها، فالليبرالية تعني المساواة والتحرر من كل القيود بما فيها الحدود السياسية والحواجز الاقتصادية وغيرها، ولكن لا توجد دولة اليوم لا تمتلك قيودًا سياسية أو اقتصادية وإن كانت تنادي بتخفيف آثارها. كما أن الحكومات الليبرالية هي من دعمت الوطنية حفاظًا على السلطة.
باسم الليبرالية قطعت رؤوس الناس في الشوارع، وباسم الليبرالية وضعت قوانين الطوارئ التي يستخدمها كل دكتاتور في العالم ليقمع معارضيه، وباسم الحرية استعمرت البلدان، وباسمها فرضت الرؤية الغربية على العالم بالقوة، وباسمها دعمت الأنظمة الدكتاتورية، وباسمها احتكر حق التصويت، وباسمها فككت الأسرة.
لقد قضت الليبرالية على نفسها بعد الحرب العالمية الأولى(قبل 90 عامًا تقريبًا)، وحلت الاشتراكية محلها في العالم الغربي ولم يكن يجرؤ أحد أن يقول "أنا ليبرالي" خجلاً، وحتى أمريكا تأثرت بهذه الموجة والضمان الاجتماعي هو خير دليل على ذلك.
واليوم ها هي الليبرالية تطل بوجهها الملمع من جديد ولكن هل تعلم الناس من دروس الماضي؟
لقد أدت الحرية اللامحدودة التي توصل إليها البعض بحجة الليبرالية إلى انتشار الأمراض النفسية والأمراض القاتلة، ولكن لا يزال البعض ينادي بها!
4. الرأسمالية: أدت إلى تقسيم العالم ككل وليس لتقسيم البلدان داخلياً فقط، فاليوم كل بلد يصنف ضمن واحد من ثلاثة أصناف بناء على المقياس الرأسمالي وحده.
وأيضًا كان لها دور كبير في الاستعمار وفي نشوب الحربين العالميتين. كذلك أدت إلى ازدياد اللامساواة، وتعزيز النظرة المادية للعالم وللإنسان مما أدى إلى أن يكون الإنسان أسيرًا لعمله، ومنعزلاً عن محيطه الإنساني والطبيعي، إضافة .
وحسب المنطق الرأسمالي فإنك في سوق العمل لا تبيع مهارتك فقط –فطرق الإنتاج الحديثة تمكن الكثير من الأشخاص بعمل ما تستطيع عمله- وإنما تبيع مقدار الوقت الذي تكون مستعدًا للتنازل عنه أيضًا. كما أدت إلى ظهور نظرية جديدة هي أشد خطرًا ألا وهي نظرية "يمكن صنع سلعة من أي شيء"، واستناداً على هذه النظرية يمكن أن تعتبر حتى الإنسان سلعة، بل يمكن أن تعتبر كل جزء من الإنسان سلعة، فهناك استخدام لصور الشعر فقط في دعايات الشامبو وهناك استخدام لصور العين فقط في دعايات العدسات والأمر ينطبق على اليد والفم والصدر وكل عضو، وقس على ذلك بقية الأشياء.
ولا يخفى ما لهذا من ارتباط وثيق بالخلاعة وتجارة البشر واحتقار قيمة الإنسان وتحديدها بمقدار ما يمكن أن يجلب من أموال.
كما أن هنالك حديثا طويلا عن جوانب الخلل في الاشتراكية والديموقراطية والعولمة نتركه رومًا للاختصار.
وبعد بيان هذه الأخطاء لأحدث النظريات البشرية التي انذهلت البشرية بمستوى تطورها، فهل يبقى هنالك من حجة على أن العقل البشري وحده يستطيع أن يستغني عن دور المعصوم أو عن نصائحه وعلومه، أو أن يكون هو المقياس الأول؟!
ولعل توضيح هذا العجز البشري عن الوصول للكمال –بدون المعصوم- من أحد حكم غيبة الإمام(عج) حتى يقر البشر بقناعة تامة بعجزهم، فقد ورد: "لكل أناس دولة يرقبونها، ودولتنا في آخر الدهر تظهر" .
علماً بأننا لا نعادي العلم إطلاقاً، فقد ورد أن البشرية لا تملك إلا جزئين من العلم حتى يقوم الإمام المعصوم في هذا العصر(عج) فيأتي بـ 25 جزء جديدًا من العلم وأنه يكمل عقول الناس، وإنما أردنا تبيين قصور العقل البشري عن أن يكون كاملاً وأن يجعل في قبال المعصوم، وليتذكر الإنسان أن عقله مهما رقى يبقى محدودًا، فليعرف حدوده ولا يتجبر