عفواً أيها الزعيم !!
لقد عرف مفهوم التنمية تحولاً كبيراً في السنوات الآخيرة ، حيث إنتقل من المنظور الإقتصادي الضيق ، إلى منظور التنمية البشرية التي تعتبر أداة وشرط كل تنمية إقتصادية وتكنولوجية ، وغيرهما من أشكال التنمية . ثم عرف تطوراً جديداً هاماً من خلال طرح منظور( التنمية الإنسانية ) التي تعرَّف بأنها : تنمية من قبل الناس ، وبواسطتهم ، ولمصلحتهم ، وبإرادتهم ، وبمبادرتهم .
فالإنسان لم يعد مجرد قدرات وطاقات منتجة يتعيًّن تأهيلها من أجل التنمية الإقتصادية ، بل إن الإنسان هو المحور الأساس على مستوى المُدخلات ، والعمليات ، والمُخرجات وكذلك الغايات . وإنه لا تنمية ممكنة فعلياً ، إلاَّ بمقدار توسيع خيارات الإنسان في إمتلاك زمام مصيره تسييراً وتوجيهاً وصناعة ، من خلال بناء اقتداره الذاتي وتمكينه الكياني ، بحيث يرتقي إلى نوعية حياة تحقق له كامل إنسانيته ، وتحفظ كرامته التي خصه الله بها دون سائر المخلوقات . ومن أول شروط هذا التمكين والإقتدار على مستوى الكفاءات والخيارات ، معرفة الإنسان ذاته في خصوصية ظروفه على كافة الأنساق التاريخية ، والثقافية ، والسياسية ، والإجتماعية .
هذا الإنسان الذي إختاره الباري عزَّ وجل ليرث الأرض في حال صلاحه ، وإتباعه للتعليمات السماوية ، وإدراكه للقوانين الطبيعية . قال تعالى ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ (105) سورة الأنبياء . مع الأسف هذا الإنسان بات عرضة للكثير من الموانع التي تحول بينه وبين القيام بدوره الطليعي في التنمية ، بل وتؤثر سلباً على إستغلاله لقدراته العقلية والعضلية ، وتُساهم بشكل أو بآخر في هدر مقوماته الذاتية ، وتحصره في زاوية ضيقة للغاية ، وتحوِّله إلى قزمٍ مصاب بالشلل الرباعي فلا حول له ولا قوة .
من العوامل التي تعيق الإنسان عن القيام بدوره التنموي بالشكل والصيغة التي يجب أن تكون عليها ، وتؤثر على عطائه الوافر لمجتمعه ما يلي :
1. القبول المشروط للجماعة : حيث أن فرصته في بناء دوره الإجتماعي يعتمد بصورة قطعية على مدى رضوخه لقيم ومعايير الجماعة ، ومقدار مساهمته في تحقيق أهدافها ، ومشاركته الفاعلة في أنشطتها ، وتأثيره في جلب المناصرين لها ، وتكثير سوادها في المجتمع فإنه يصبح مقبولاً ويحظى بالرعاية والحماية ، ويمكن أن ينال نصيبه من الغنيمة بمقدار ولائه للجماعة . وإذا لم يفعل فهو غير معترف به ، بل يكون في أحسن الأحوال معرضاً للنبذ والإستبعاد والإقصاء عن الفرص ، ومكانته اللائقة به – والحال كهذا – تكون في مؤخرة سلم الجماعة ، إذا لم تكن عند أحذيتهم ( أعزكم الله ) لأنه – في نظرهم - ببساطة إبناً عاقاً ، وصوتاً نشازاً في جوقة العازفين يجب إستبعاده من الأركسترا حتى لا ينفِّر المستمعين ، وتبور قيمة الجماعة أمام المنافسين .
2. ثقافة الولاء بدلاً من ثقافة الإنجاز : يهدف القبول المشروط إلى ترسيخ ثقافة الولاء للجماعة عند أعضائها ، وهو أمر بديهي ما دامت هذه الجماعة تقوم على التعصب وتستند إليه . من هنا فإن ( ثقافة الولاء للجماعة ) هي التي تحدد مكانته بين أعضائها على حساب ( ثقافة الإنجاز ) أي ما يقدمه الإنسان من جهد ، وكد للجماعة ، وما يساهم به من رؤى وأفكار لتطوير منهجها الفكري ، وتحديث أساليب أدائها الديناميكي ، فإن ذلك ليس له أي قيمة في معادلة التبعية دون تقديم الولاء والطاعة ( لرموز تلك الجماعة ) وهذا ما يجعل أعضاء الجماعة يوظفون كل طاقاتهم من أجل إثبات تبعيتهم وولائهم الشخصي للجماعة وزعاماتها . والمشهد كهذا فإن الجهد والإنجاز وبناء الكفاءة تصبح غير ذات موضوع ما دام أنها ليست الطريق الموصل للهدف في نظر أصحاب الرأي طبعاً !! من هنا نلحظ خروج قلة من الأعضاء الذين يرفضون أن تسود ثقافة الولاء على حساب ( ثقافة الإنجاز ) وهؤلاء بصراحة قد يصادفون مصاعب جمة في تكوين مكانتهم الإجتماعية ( ما لم يمتلكوا مهارات ومقومات إستثنائية ) تتيح لهم الترقي على السلم الإجتماعي ، وتمكنهم من إعتراف وتقدير المجتمع لإنجازاتهم .
3. العلاقة التعلقية لا الموضوعية : إن الإنسان كائن إجتماعي بطبعه لا يمكنه أن يعيش منفرداً بذاته ومنعزلاً عن محيطه الإجتماعي ، من هنا فهو بحاجة إلى الإنتماء إلى ( نحنُ ) والشعور بالعزة والمنعة من خلال ما تقدمه هذه النحن من حماية وإعتراف ولو كان مشروطاً كما سبق ذكره في البند الأول . إنها قضية ترتبط بجدلية أساسية تتمثل في الإندماج / الإستقلال فمقابل النزوع إلى الإستقلال هناك نزوعُ مقابل للإندماج في ( نحنُ ) إلاَّ أن هذا الإندماج يظل ملغوماً بدوره لأنه يتخذ دلالة الإتباع والإخضاع ، ويقوم على العلاقة التعلقية كعلاقة الطفل بأمه حيث أن هذه النحن تتخذ دلالة الأم المُرضعة حتى الإمتلاء والإرتواء ، الأم الرحم الحاضنة لذلك الطفل الذي يتغذي منها عبر ( الحبل السري ) الذي يربطه بها ، الأمر الذي يوفر له الأمان والإستقرار بل الحياة والإستمرار ، ويشعر بالإمتنان والراحة والإطمئنان وهو يتربع بين يديها تحيطه بكل رعاية واهتمام ، ومن أجل ذلك فهو يجب أن ينكر ذاته من أجلها ، ويصغر حجمه تواضعاً عند حضورها وفي غيابها ، ولا يحق له محاسبتها إن صدر تقصير بحقه منها ، وهي مرآته التي يرى ذاته من خلالها ، ويجب أن يشعر بأنه صفر في المعادلة إذا ما قيس برموزها .
من المؤسف أن تتكالب هذه العوامل على الإنسان في مجتمعه ، وتعيقه عن التفاعل الإيجابي مع من حوله سواء كانوا أفراداً أو جماعات ، وتساهم في إهدار طاقته ، لا لشيئ إلاَّ لأنه يميل إلى الإستقلال ، والبحث عن الإعتراف المتبادل بقدراته ، ومهاراته ، ومعارفه ، دون الخضوع لسلطة ( س أو ص) من أبناء مجتمعه . إنه يسعى للإندماج حيث الشعور بالألفة والتناغم والتعاون مع بقية مكونات المجتمع مع إحتفاظه بحقه في الإستقلال الذي لا يتنافى ( بتوفر قليل من الوعي ) مع الرغبة في الإندماج . ولكن ما العمل إذا كان الحال يقول :
من لم يكن بزعيم القوم معتصماً فما هو بالصلوات الخمس منتفعُ
شكراً لكم مفعماً بالمحبة والتقدير ، والله من وراء القصد ،،