سوق أم ساحة حرب؟! تراجيديا واقعية لسكان أهل الأرض
يسوي حزام سيارته على صدره باكراً، النشاط في أوجه فهذا يوم إجازته، يتمتم في نفسه: «وأي إجازة هذه، هو دوام من نوع آخر، في مكان آخر»، أمامه مهمة شراء حاجيات منزله، عليه أن لاينسى شيئاً، فهو اليوم اليتيم المخصص لقضاء حاجيات العائلة!
يمر على بيوت الطين المطلية بطلاء قديم متآكل، يكاد الجدار أن يسجد على أهله من شدة التضرع، الفقراء يملؤون الأحياء لولا العفاف والتستر، برهة قصيرة حتى يتعجب من رفاهية منازل أخرى، يلاحظ البذخ والخيلاء في تصاميم تلك البيوت الفارهة، فيغمغم: « بيوت القصور وبيت القبور، كيف لا يشهر الفقير على الغني سيفه وهو يشاهد هذه الطبيقية المفرطة والبرجوازية المقيتة بين هذه وتلك!! »
يحاول أن يجد مخرجاً لهذا التناقض الفاحش بين أناس يعيشون في ذات الزمان والمكان، يصل إلى نتيجة: «هكذا حال الدنيا، غني وفقير، جائع ومتخم من فرط سمنته»، ماهي إلا دقائق حتى يترجل من سيارته ويضع أقدامه في مواقف مكتضة للسوق، هي ليست مواقف، لكن الناس يسمونها كذلك، شريطة أن لايحضر رجل المرور ليدوم مخالفة وقوف خاطئ!!
القيض بدأ يغلي بأصحابه منذ الساعات الأولى، هناك يشاهد نساء عجائز يفترشن الطريق يبعن ما يُسد به رمق أطفالهن وجوعة بطونهن، الحرارة تشتد وصعيق التجار: «الكليو بعشرة، الكليو بعشرة»، يقترب من الفاكهاني، يشتري فاكهة للصغار بعد أن يرى لمعان الثمار، التفاح الأحمر كخدود العروس، والبرتقال الطازج كصفاء الشمس، والمشمش والكمثرى والموز ووو، خيرات حسان، هذا ما أبدعه الرحمن.
بدأ يسأل عن الأسعار، ويتخير ما يسر به الصغار، يرفع البائع ثمنه ويسعى المشتري لتقليل المبلغ، بين شد وجذب يقع البيع، وكأن العملية استخراج دلو ماء من البئر، تذوب القائمة في يده من شدة الحرارة والتعرق، الحر بدأ يشتد، وصولة السوق تزمجر بالنشاط، وكأن الرحى تدور بأهلها.
يرى عجوزاً أنهكه التعب يتسول، يخاطب نفسه: «متى سيأكل الفقير، والأسعار باهظة»، يمسح العرق المتفصد، أما أنهار الأمازون التي تجري شلالات خلف ظهره فلا يراها أحد، يكمل حديث النفس: «هناك من لاطمع له في القرص ولا عهد له بالشبع».
ولما بلغ صاحب البطيخ أصابه الحرج الشديد، فلقد نفذت نقودَ محفظته رغم أنه لم يشتري شيئاً، أصيب بحكة فجائية، تباغته هذه الحالة كلما سقط في موقف مشابه، حمد الله حين شاهد «صرافة» على يمينه، فهرول لينقذ الموقف. دفع للبائع ثمن الوزن، وأكمل ما يحتاج، في طريق ذهابه سمع أحدهم، يشاجر بائع الطماط أحمر وجهه من الغيظ: «الغش في كل مكان»، كاد البائع أن يخنقه، لو لا الاعتذار وتدخل من بالجوار، تمتم: «سوق أم ساحة حرب؟! »، توجس وفتح التفاح الذهبي الذي اشتراه، فلم يرى إلا ما يندى له الجبين!!