خسف الأنوار
استيقظت عقيلة مع أذان الفجر , وظلت جالسة في محرابها تبتهل لله تعالى وتدعو الله سبحانه وتعالى .
وأسقطت الشمس خيوطها الذهبية على نافذة عقيلة .
هرولت مسرعة لتمتع نظرها بقدرة الخالق التي تجلت في محو آية الليل وولادة آية النهار .
رفعت رأسها إلى السماء لشكر ربها سبحانه وتعالى .
تبتسم دموعها على وجنتيها .
تبتسم لتوشح الطرقات بالسواد فهذا دليل على كثرة محبي أهل البيت عليهم السلام .
تبكي على مصائبهم وما حل بهم في هذا الشهر المحرم , وتتشح بالسواد وتطرق باب جدها فقد أحبت أن تكون أول من تعزي جدها في مصاب أبي عبدالله الحسين u .
قبلت النور الذي على جبينه من كثرة سجوده في الأسحار لله تعالى , ولم تغفل عن اليدين المتقوستين من كثرة الخدمة في مجالس أبي عبدالله الحسين u .
تنهد الجد قليلًا لكن آهاته فجرت دموعًا من عينيه وعبثًا ذهبت محاولة عقيلة لاحتواء الموقف .
بهدوء سألت جدها .
قالت جدي : كم سنة خدمة في مجالس أبي عبدالله الحسين u .
قال الجد : لست بارعًا في الحساب يا ابنتي , ولكن كنت أرافق جدي وأبي إلى مجالس التعزية منذ نعومة أظافري وتعلقت كل حواسي بهذه المجالس .
قالت عقيلة : جدي هل تذكر بدايات خدمتك في الركب الحسيني ؟
وشقت إبتسامة الجد دموعه وقال : رغم صغر سني إلا أنه مازال المشهد عالق في ذاكرتي إلى الآن كأنه حدث بالأمس أو قبل ساعة .
فضول عقيلة دفعها لتسأل جدها بشوق ولهفة , وما هذا الموقف ؟
قال الجد : كنت برفقة جدي وأبي في أحد المجالس وكان الخطيب يقرأ على العباس ابن علي بن أبي طالب عليهم السلام , ويذكر بطولاته وكيف ضحى بحياته حتى يصل الماء إلى مخيم أبي عبدالله الحسين u وتمنى عقلي الصغير في تلك اللحظة أن يضحي بجسـده لخدمة معزين الزهراء عليها السلام حتى تفرح بي كما تفرح بكفوف العـباس المقطوعة .
بينما أنا يا ابنتي مبهور بكلام الخطيب عن أبي الفضل العباس u , وتفكيري يتصارع كيف يحصل على مناه لخدمة معزين الزهراء عليها السلام ؟
أيقضني أبي من سباتي بكلامه اللطيف أبني قلت : لبيكِ أُخيه زينب , أجيب الماء على زندي , وسقيك وسقي كل الأطفال والنساء . عذري إذا قطعت كفوفي .
كلمات خرجت بعفوية متأثرة بالأحداث التي كان يرويها الخطيب .
نظر أبي إلى وجهي بغرابة .
وقال أبي : ولدي أحضر الماء لجدك .
قاطعت عقيلة جدها . وقالت : هذه البداية يا جدي أليس كذلك ؟
قال الجد : بداية وأكرم بها من بداية .
قال الجد : وهنا موقف يشرح صدري كلما ذكرته .
قالت عقيلة : جدي وما هو هذا الموقف ؟
قال الجد : عندما شرب جدي الماء .
قال أبي : سقاك الله من الكوثر .
قالت عقيلة : هذا رد مناسب على الموقف والعمل الجليل الذي قمت به .
قال الجد : كلام لا جدال فيه ولكن عقلي الصغير فسر الكلام بطريقته العفوية .
قالت عقيلة : وكيف فسرت هذه الكلمات ؟
قال الجد : طفولتي ترعرعت ونشأت بين أحضان جدي , كلامه يريح النفس ويطفي عليها البهجة وعبادته تبهر ناظري وتربط تفكيري بخالقه , وتلاوته للقرآن تسحر عقلي وعندما يقرأ سورة الكوثر كنت ابتسم وأنكس رأسي في الأرض وأطلب من جدي أن يكررها . تبسمي أثار فضول جدي .
سألني عن سبب التبسم ؟
فقلت : لا . لا شيء جدي .
وهي أول سورة حفظتها من جدي .
قالت عقيلة : جدي هل تجيب على سؤال جدك الآن ؟
قال الجد : نعم . نعم فقد ربط خيالي الطفولي بأن جدي يمدحني عندما سقيته الماء وأن القرآن الكريم يمجد فعلي .
يتدرج بي جدي في حفظ القرآن الكريم ويبدأ معي في تفسير السور , وأطلب من جدي تفسير سورة الكوثر مدعيًا بأنها صغيرة وكلماتها لا تتجاوز العشر كلمات ولن تأخذ منه وقتًا طويلًا .
وما أن بدأ جدي في تفسيرها , اكتشفت كم هي عظيمة هذه السورة ؟ وكم هم عظماء من نزلت في حقهم ؟
قال الجد : طرحت على جدي سؤال في ذلك الوقت .
وأجاب جدي نعم . ساقي الكوثر هو الأمام علي u وحامل لواء الحمد يا بني .
اِجهد نفسك لتنال منه قطرة لا تظمأ بعدها أبدًا .
قالت عقيلة : هل عملت بوصايا جدك ؟
قال الجد : نعم . كان ذكر الأمام علي u أو أحد الأئمة يقشعر منها بدني .
كيف إذا فزت برؤيته ؟
وأجهش جد عقيلة في البكاء وعلا من النحيب , وتذكر مصائب أهل البيت ومصائب أبي عبدالله u .
قالت عقيلة : جدي أن الأنبياء ابتلاهم الله في دار الفناء للخلود في دار البقاء .
قال الجد : صدقتي ابنتي أن الله ابتلى المؤمنين ليجازيهم على صبرهم .
وجرت دموع جد عقيلة على أخاديد خديه كالأنهار .
وبحزن ممزوج بخجل قالت عقيلة : ماذا بك جدي ؟ هل تذكرت والدي ففي مثل هذه الأيام فُجعت به ؟
قال الجد : بنيتي في ليلة السابع من هذا الشهر فُجعت بأكبر أبنائي , رحيل ابني عباس في الليلة المخصصة لأبي الفضل العباس , وهذا أقل فداء لأقدام الأمام u وأنت يا ابنتي لا تزالين رضيعة .
قاس والدك كثيرًا مع المرض فلا شيء أشد وأعظم من فقد الأبناء وبالأخص في ربيع الشباب .
كم تألم قلبي عندما كان يكتم آهاته وأنينه حتى لا يكدر صفوة حياتي ويثني من عزيمتي للجلوس بجانبه وترك خدمة أبي الأحرار u .
تألمت عقيلة لذكرى والدها فهي لم تلمس حنان الأب وتألمت أكثر لتحمل والدها ألم المرض .
ولمع في فكر عقيلة سؤال لجدها وأن كان السؤال مؤلمًا إلا أنها طرحته بأحزانها .
قال الجد : نعم تألمت لفقد أبني , وحزنت لعجزي وعدم مقدرتي لتخفيف عنه .
عشقي للحسين وولائي للعباس وحبي لخدمة أهل البيت وحزني على مصاب الزهراء عليها السلام أكبر .
قال الجد : هل أثريك يا ابنتي ؟
قالت عقيلة : نعم جدي .
قال الجد : خدمة المعزين قد سرت في شراييني منذ لحظة أن قدمت الماء لجدي .
بذرة غذاها جدي ونمت وترعرعت بين أحضان أبي شجرة تناطح السحاب وتصارع الجبال الرواسي .
لم أنثني ولم أخذل عن خدمة المعزين رغم المصاب .
أهل البيت أكبر وأعمق وكلما قرأ الخطيب على شعيرة من شعائر الحزن وقعت في نفسي كأنها الآن قد حصلت وليس قبل أكثر من ألف عام .
فبمجرد تنهد الخطيب فأنها تحرق فؤادي , وتسيل دموعي وتتلاطم على خدي كأمواج البحر الهائج , ويتصور فكري وعقلي فاطمة الزهراء عليها السلام .
كيف تحملت هذه المصائب ورأتها رأي العين ؟
ويزداد حزني .
وكل مصيبة تقع في أذني تضاعف كربي كأن الأحزان تتجدد وكل يوم تلد , وتتحلى بالجديد وتبز شعيرة حزنًا أحزن من سابقتها .
عطفت عقيلة تفكير جدها .
قالت جدي : حقٌ لك أن تفتخر لخدمة المعزين فهذه الأوسمة والشهادات فخرًا لك وجسمك النحيل المتقوس من رياح السنين المنقوش بحزن الزهراء , المفجوع بفقد أحبابه .
ونزلت قطرة من دموع الجد وتداركتها أنامله المرتجفة .
قال : ابنتي هذه الأوسمة والشهادات على كثرتها فإنها لا شيء في نظري .
ابنتي أنا أنتظر الوسام من مولاتي فاطمة الزهراء بعد أن ترفع كفوف أبي الفضل العباس , أن تنظر إلى كفوفي التي تقوست من خدمة المعزين وتطبع الشهادة على يميني وأمضي بها إلى الأمام علي u .
لا لأشرب من كفيه ماء الكوثر فقط بل لأسئله .
كيف تجرؤوا على خسف هذه الأنوار ؟