الحقوق الفكرية
عندما جاء الإسلام أعلن موقفه الواضح من حرية الاعتقاد واختيار الدين، وأرسى القرآن الكريم مبدأ الحرية الدينية والفكرية، في قوله تعالى: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» البقرة: 256. ففي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان، واحترام إرادته وفكره ومشاعره، وترك أمره لنفسه في ما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد، وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه، وهذه هي أخص خصائص التحرر الإنساني، التحرر الذي تنكره على الإنسان في القرن الواحد والعشرين مذاهب متعسّفة ونظم مذلة، لا تسمح لهذا الكائن الذي كرمه الله - باختياره عقيدته - أن ينطوي ضميره على تصور الحياة ونظمها غير ما تمليه عليه العولمة بشتى أجهزتها التوجيهية، وما تمليه عليه ذلك بقوانينها وأوضاعها، فإما أن يعتنق مذهب ما، وهو يحرمه من الإيمان بإله للكون يصرف هذا الكون، وإما أن يتعرض للموت بشتى الوسائل والاسباب..
فالدين هو سلسلة من المعارف العلمية المتتابعة يجمعها انها اعتقادات، والاعتقاد والإيمان من الأمور القلبية التي لا يحكم فيها الإكراه والإجبار، فان الإكراه انما يؤثر في الأعمال الظاهرية والافعال والحركات البدنية المادية، واما الاعتقاد القلبي فله علل وأسباب أخرى قلبية من سنخ الاعتقاد والإدراك، ومن المحال أن ينتج الجهل علما، أو تولد المقدمات غير العلمية تصديقه علمية، فقوله تعالى: «لا إكراه في الدين» إن كان قضية إخبارية حاكية عن حال التكوين أنتج حكما دينيا ينفي الإكراه على الدين والاعتقاد، وإن كان حكمة إنشائية تشريعيا كما يشهد به ما عقبه تعالى من قوله: «قد تبين الرشد من الغي»، كان نهيا عن الحمل على الاعتقاد والإيمان كرها. وعليه فإن اعتناق الدين أو المعتقد لا يتم عبر وسائل القمع والجبر والقسر، وإنما عبر وسائل الإقناع والحوار، وعلى الإنسان أن يختار ويستخدم عقله ويمارس إرادته، وينتخب طريقه.
ومع الفوضى التي تعيشها المجتمعات الإنسانية في العالم، فقسم منها يؤمن بالدين الذي اختاره، وآخر لا زال يعبد الأوثان والاصنام، وقسم تائه لا يعلم أي طريق يختار، وسبب ذلك يعود الى الفراغ الروحي الذي تعيشه المجتمعات، وإلى الطريقة والوسيلة التي استخدمت في إقناع الفرد، ومع ذلك فإن هناك مؤشرات ودواعي تلحظ في دول العالم تشير إلى أن هناك إمارات عودة قوية في المستقبل للرجوع الى الدين والالتزام بمعتقد. ويعود السبب في ذلك الى حالة الجدب الروحي، وتفشي وتفاقم الانحلال والانحطاط الخلقي بمختلف أشكاله وأنواعه، يضاف إلى ذلك تنامي الانتهاكات والظلم الذي يحدث في دول العالم بحق الأفراد، وحرمان بعض المجتمعات من التعبير عن معتقداتها وأفكارها، فبعض الدول تعتبر ذلك جريمة يعاقب ويحاسب عليها الفرد، وبعض هذه الانتهاكات استخدم فيها الدين كسلاح للقضاء على الحريات الدينية والفكرية الأخرى، وأصبح من الصعب تجاوز هذا المشكل الذي أصبح يهدد العالم بحروب عصبية وعرقية ودينية، وكله ناتج من ضيق الصدر في تحمل الآخرين والتعايش معهم.
وأما شعار أن الإسلام انتشر بالسيف، وأساء معاملة أهل الكتاب، فإن ذلك غير صحيح، والحقيقة أن الإسلام أنصف أهل الكتاب وأحسن معاملتهم، فالإسلام أجاز استشارة أهل الذمة فيما يتعلق بالنظام الدنيوي والقانون، وتم تعيين مستشارين منهم للحاكم المسلم، وهذا ما نراه حتى وقتنا الراهن، وأعطاهم حقوقهم في إحياء شعائرهم المقدسة، واحترم حرياتهم.