شيكاغو الكبرى
بالبهجة والسرور مع خلط بعض الدموع استقبلت العائلة ابنها العائد من الغرب.
وترتسم على الأب كل معاني السرور, وهو يضم ابنه إلى صدره ,ويخاطبهُ بصرهُ ,انظر إلى ابنك لم تؤثر فيه المدنية , لم يخلع لباس الحشمة والوقار .
قال العقل للعين : انتظري حتى نقرأ طيات سطور أفكاره , وتتضح المعاني , لا يخدعك المظهر بل الفكر .
بادر رضا أباه وسأل جده وجدته !!!
قال الأب : هم في المنزل في قمة الاستعداد لاستقبال حفيدهم .
تثاقلت أقدام رضا , وهو يجري مهرولًا نحو جده الحنون , ليكحل نظره برؤية الجد الحنون , وارتفع صوت اللسان جدي . جدي ...
واختلطت دموع الفرح والحزن عند لحظات اللقاء .
قبل رضا جده وكذلك جدته .
رفع الجد والجدة أيديهم نحو السماء .
وقالا : الله يرضى عليك يا ولدي رضا .
تبسم رضا عندما سمع هذا الدعاء فهو يحب أن يسمعه من أجداده .
دمعت عين الجد وبخفة وذكاء تداركها رضا .
وقال : انتهت سنوات الغربة يا جدي , فلا فراق بعد اليوم , وما حصد من علم سوف أثري به وطني , وأبناء بلدي , وأخدم مجتمعي لنهوض به نحو المستقبل الزاهر.
تساقطت الدرر من عيون الجدة .
أما الجد فقد خانته أنامله في مسح دموعه .
أخذ قلب رضا يخفق بقوة , ولسانه يتسارع , وكلماته تتدافع .
ما هذه الدموع ؟
ما ذا بكم ؟
وأجابت دموع الأجداد بنثرها على الوجنتين , أما لسانهم فقد كانت كلماته ضعيفة أمام الدموع .
قال رضا : أعتذر لكم عن عدم السؤال عنكم في الفترة الأخيرة , وذلك بسبب تركيزي على الدراسة , وإنهاء سنوات الدراسة في أقصر وقت , لتفرح بقدومي وبتخرجي .
كان رضا يسمع نبضات جده وجدته كأنها قرع الطبول , ويرى في عيونهم الحزن , وعلى شفايفهم الآهات .
عاد رضا السؤال على جده وجدته بصيغة أخرى .
كفكف الجد دموعه بمنديل وقال :أبني رضا حوادث جمة قد حدثت وغيرت .
لم يستطيع الجد مواصلة الحديث , فقد انهارت دموعه كما انهار جسده من الحزن الدفين .
ولم تكن الجدة بأحسن حال من الجد .
نفض الأب عنه الصمت وقال : أبني رضا يكفي جدك مابه من هموم وأحزان .
قال رضا : ما هذه الهموم والأحزان أبي ؟
وخرج الكلام بثوبه الأسود المطرز بالأحزان .
أبني رضا منذ أقل من شهر أنتقل إلى رحمة الله ورضوانه أبن أعز صديق لجدك .
قال رضا : البقاء لله وحده , وهذا شأن الله في عباده كلنا راحلون .
قال الأب : صدقت ولدي الدوام لله وحده .
لكن يا بني .
قال رضا : لكن ما ذا يا أبي ؟
قال الأب : أولاده ما زالوا أطفال صغار .
قال رضا : يرعاهم جدهم وأعمامهم لم يتخلوا عنهم .
ولم تستطيع دموع الأب البقاء محبوسة داخل العيون فقد كسرت القيود , وجرت على الخدود .
وكان رضا ينظر إلى الأب وإلى الجد والجدة وهو يستنكر جزعهم وحزنهم .
قال رضا : أبي جدي جدتي , لا يذهب بحلمكم الشيطان , ولا تهتز عقيدتكم في الله .
قال الجد : هل تعلم كيف توفي جهاد ؟
قال رضا : الله يتوفى الأنفس عند موتها .
قال الجد : لكل أجل كتاب , ولكن موتت جهاد ليس لها مثيل .
تغيرت تعابير وجه رضا واختلفت نبرات صوته قال : وكيف ذلك ؟
قال الجد : اختلاف في وجهات النظر, تمخض عنه عدت طعنات في قلب جهاد , لِنقل إلى الرفيق الأعلى , قبل أن ينقل بسيارة الإسعاف .
وقام الجد من مكانه , ومد يده نحو الوسادة التي ينام عليها , وأخرج جريدة , وقدمها إلى حفيده .
أخذ رضا الجريدة ولم تكن إلا صفحة واحدة تحمل خبر الجريمة النكراء .
قرأ رضا الصفحة التي كادت أن تتمزق من بكاء الجد عليها كل ليلة قبل أن ينام .
صرخ رضا بلسانه ودموعه , ما هذه الوحشية ؟
وانهار رضا وضل لسانه يلهج بكلمات , لا حوله ولا قوة إلا بالله العلي العظيم , إنا لله وإنا إليه راجعون .
قال الجد : أبني رضا هل صعقت عند قراءة الخبر ؟
وقال الجد هل أزيد ؟
قال رضا : جدي وما هذه الزيادة ؟
لا . لا داعي للكلام فالخبر هنا مفصل .
واتجه الجد إلى مكتبته الصغيرة , و أخرج أوراق وصحف وجرائد .
وكان رضا ينظر إلى جده وهو في ذهول لما رأى وسمع .
وضع الجد الأوراق والصحف والجرائد أمام حفيده رضا وقال له : أقرأ ؟
قال رضا : ماذا أقرأ ؟
قال الجد : أقرأ ما وضع حوله دائرة بالخط الأحمر !!!
أخذ رضا الأوراق وقام يقلبها , وكلما وقع نظره على ورقة زادت من دموعه , وكلما رفع ورقة استغفر الله .
رفع رضا رأسه وقال : أبائي ما هذه الجرائم البشعة , والحوادث الشنيعة , والأخبار المفزعة ؟؟؟
هل هذا حدث في منطقتي ؟؟؟
وفي هذه الفترة القليلة ؟
قالت الجدة : نعم أبني , أنعدم الأمان , وعم الخوف على كل شيء .
دنست أعراض النساء , وانتهكت براءة الأطفال , وقتلت براعم الشباب , ونهبت الأموال .
قال الجد : المعروف لا يعمل به , والمنكر لا يتناهى عنه .
قال أبو رضا : أبني كانت منطقتنا قبل عهد ليس بالبعيد تتحلى بوسام النجف الصغرى .
قال رضا : والآن تستحق هذا الوسام وبجدارة .
قال الجد : وما هذا الوسام ؟
قال رضا : شيكاغو الكبرى .
