صافي
الطريق متعرج , ومنحي وشديد الانحدارات , والجو ضبابي , والرؤية شبه منعدمة , والأمطار غزيرة مصحوبة ببرق ورعد شديد , والرياح قوية تميل إلى الأعاصير .
هذا وصف لطقس والأجواء , والحالة التي تعيشها صافي .
لم يصفي لها الجو لحظة , ولم تتمتع بمراحل عمرها كباقي قريناتها .
برعمه لم تتفتح, ولم تنثر من ريح عبقها في الحياة , كسرت أغصانها وجذورها رياح البلاء , لتتابع عليها المحن , ويلقي عليها غبار الأقدار باليتم والحرمان , وتعصر والدتها الأحزان وتحاصرها الآلام , وتجردها الأيام من أصولها .
ويفتح لها عمها الباب , ويفرش لها الأرض مدنسة بالاعتداءات والإهانات , ويزينها أبن عمها بالرذيلة .
تغلق صافي باب غرفتها التي لا تتعدى المترين , بعد أن كانت تسكن القصور .
وتفتح قلبها المثقل بالأحزان المليء بالآهات , تناجي الخالق , وتتلمس الرحمة من الرحيم .
ويقطع عليها لذت المناجاة , صوت الباطل يدعوها إلى أحضان الشيطان , وتصرخ صافي ويتزلزل المكان بمن فيه من شدة الصرخة , ويخرس صوت الباطل خجلًا , ويختفي في جحره .
أمعنت صافي في تفاصيل حياتها , هاجت بها ذكرياتها , إلى الماضي , وقرأت أفكارها .
أب حنون لم أرتوي من حنانه , ولم يتلذذ بتربتي حاصره القدر ليلتحق بالرفيق الأعلى , ولم تستطيع يدي الناعمة والصغيرة من ضمه , قبل أن يضمه مثواه الأخير , طيش الشباب حطم سيارته كما حطم كل عضو من جسمه .
أم عطوفة وزوجة مخلصة ووفيه , فقدت الزوج والحبيب الوفي وسر بقائها في الحياة , ويرفض عقلها وتفكيرها فكرة أن تقبل الحياة بدون الزوج الوفي , ويتمرد جسدها , ويرفض الاستجابة للعقاقير الطبية , ويستسلم جسدها إلى الموت البطيء , وترحل روحها بسلام إلى خالقها .
صافي أبي رأى الصفاء والنور يوم بشر بقدومي إلى الدنيا , وتضاعفت تجارته وأرباحه , وشمل أبي الخير .
وقفت صافي في منتصف الغرفة وقالت : هل صافي لا تزال صافي ؟
أجابت صافي على سؤالها فلا أحد يشاطرها أحزانها , ولا حتى يشاركها في الجلوس .
تكدر العيش من بعد الوالدين و صبغ اللجين الصافي بالاحمرار , والماء الجاري بالشوائب .
أين الأصدقاء ؟
أين الجيران ؟
أجابها صمت أركان الغرفة , أنت وحيدة بائسة أنت براءة مزقتها الأحزان , ودنستها يد الأعمام , وكل حين يمد الشيطان أنامله لينهش العفة ويمزق الحجاب .
قالت صافي :
أين من يمسح دمعت اليتيم ؟
أين صلة الأرحام ؟
أين الحقوق ؟
أين . وأين . وأين ؟؟؟
التقوة . الورع . مخافة الله .
سمعت صدى صوتها . وأجابتها روحها الشفافة .
لم تمسح دمعت اليتم بل تجنيد كل ماهو متاح لتتحول الدمعة إلى أنهار جارية .
والأرحام تمزقت بمخالب الذئب القوية .
والحقوق تاهت في الفضاء الملوث بالرذيلة .
وجرت الإنسانية نحو كسب وإرضاء الشيطان .
وماتت القيم داخل النفس المتلبسة بالشيطان .
وتبخر الورع في الهواء .
وحذف مخافة الله من قاموس الإنسانية .