الثروة
أحبت فاطمة الغنى وجمع الثروة , وجندت كل طاقتها لتحقيق أمنيتها في كسب الثراء , أبناؤها كانوا هم المحفز الأكبر في شق طريقها , وشريك حياتها الداعم الحقيقي لكل خطواتها , و والدتها باركت كل قدم سعت لهذا الثراء .
ما قصدته فاطمة ليس الثراء المادي الزائل , بل الثراء المعنوي الدائم , الممتد حتى بعد الحياة .
عملها الإرشادي في مدرسة منطقتها فتح لها المجال الواسع , لتطلع على كل ما يدور خلف الأبواب المغلقة , وتتفهم حياة كل أسرة .
وكيف تشق الأُسر طريقها في الحياة ؟
سألت فاطمة المراقبة عن الحضور والغياب للطالبات .
أخبرت المراقبة فاطمة عن الغياب المتكرر لرقية , وعدم مقدرتها على التواصل مع أسرة رقية , لمعرفة السبب وراء هذا الغياب المفاجئ والمتواصل .
أحس قلب فاطمة المرهف , بوجود حدث عظيم , حجز رقية عن الحضور للمدرسة , فهي طالبة متفوقة , تحب العلم والتعليم .
طلبت فاطمة من المراقبة الإطلاع على ملف رقية .
أخذت فاطمة بيانات رقية , وسجلت كل ملاحظاتها في مفكرتها الخاصة .
صرخت رقية أمي ... أمي ....
من تتوقعين عند الباب ؟؟؟
قالت أم رقية : الدائنون !!!
سمعت فاطمة ما قالته أم رقية , وأحس فؤادها بثقل المعانات التي تعيشها أسرة رقية .
تقدمت فاطمة بضع خطوات إلى داخل المسكن .
واعتصرت أم رقية حزنًا , وعلا محياها الخجل من فاطمة .
فمنزل أم رقية نظيف ويشع من النظافة حتى من الأثاث .
لمست فاطمة حيرت أم رقية .
وسمعت همهمت حروفها بقلبها النابض بالحياة .
أين ستجلس المرشدة ؟
لا يوجد حتى كرسي تجلس عليه ؟
إحساس فاطمة الواعي جنب أم رقية الحرج .
قالت فاطمة : سوف أجلس بجانب ابنتي وطالبتي رقية .
داعبت فاطمة رقية بكلمات تحمل معاني الفرح والسرور .
لترسم البسمة على وجه رقية البريء .
سقطت دموع رقية , وخفت يد فاطمة لقطت الدر المتساقط على الوجنتين .
اعتصرت ألمًا وحزنًا وبصوتها الرقيق قالت رقية : لقد توفي أبي منذ خمسة أيام .
تنهدت فاطمة وقالت : هذه سنة الحياة .
كل الماديات تفنى . ويبقى وجه الله جل جلالة .
قالت فاطمة : رقية أنت متسلحة بالإيمان والمعرفة .
هل غابت عنك الآية الشريفة .....
قاطعت رقية المرشدة وقالت : لم تغب عن دهني وأذكرها .
﴿ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ .
قالت رقية : بمعلوماتها البسيطة , وهي تعني إن مرجع العباد لله وحده .
رفعت فاطمة بصرها , لترى أم رقية وقد أغرقت الدموع كل جوانب وجهها .
بصوت مزج بالحزن قالت فاطمة : تجلدي لتثابي على مصيبتك .
قالت أم رقية : الحمدلله على كل شيء , الحمدلله الذي لا يحمد على مكروه سواه .
ولكن !!!
قالت فاطمة : ولكن ماذا يا أم رقية ؟
جرت أنة وخلفها أنات وقالت أم رقية : مرض أبو رقية وعجزه عن طلب لقمة العيش , وصرف كل مدخرات الأسرة في علاج أبو رقية , أوقعنا في حرج مع الدائنون , ولم يعد لدينا ما يباع لسد ضروريات الحياة .
دمعت عيون أم رقية وقالت : أنظري أبسط الضروريات يخلو منا البيت !!!
جرت دموع فاطمة , وتلعثم لسانها عن إخراج الحروف .
وتاهت أفكارها بين سطور عقلها .
أين أنا عن هذه الأسرة ؟
كيف لم أدرك وضعهم من قبل ؟
آه ... ثم آه من ربي إذا سألني كيف قصرت يديك في مد العون لهذه الأسرة ؟
ماذا أجيب ؟
كيف لم تبصر عيني وضع رقية من قبل ؟
وبعثرت استفساراتها داخل أنفاسها .
وضمير فاطمة الحي , وقلبها الفائض بالحب على كل فقير , وأناملها البيضاء الممتدة لمسح دمعة كل يتيم وأرملة .
عاتب فاطمة على هذا التقصير غير المقصود .
صرخ عقلها وقال : لم ترتسم على ملامح رقية ما يدل على تدني حالتهم المادية , بل على العكس كانت تحي حياة الرفاهية , عزت نفسها واحترامها لكرامتها جنبها لبس ثوب الذل .
وكلمات أم رقية خرقت الصمت التي خيم على المكان لبرهة من زمن وقالت : لا تستطيع رقية التواصل مع المدرسة ونحن كما لمست الوضع ؟
قالت المرشدة : لتواصل رقية تعليمها وتشق طريقها في الحياة العلمية , والله سبحانه وتعالى لم يتخلى عن عبادة , فرحمته وسعت البر والفاجر .
وإن الله يرزق من يشاء بغير حساب .
غادرت فاطمة بيت رقية .
وأقسمت في نفسها على مساعدة رقية وأمها , من غير أن تخدش كبرياءهم أو عزت نفسهم .
ولم تعلم أم رقية ما يحملُ لها القدر بين طياته .
ومع حلول الظلام , طُرق باب أم رقية وسُلمت ظرفًا به مبلغ من المال , وقال الطارق : هذه أمانة في ذمتي إلى أبو رقية , وقد تعذر تسليمها في الوقت المحدد بسبب غيابي عن المنطقة , واختفى عن الأنظار .
رفعت أم رقية كفيها ومدت بصرها وقالت : إن الله يرزق من يشاء بغير حساب .
أما فاطمة فقالت : هذا هو الثراء المخلد , التخفيف من معانات الآخرين هو الغنى الذي لا يفنى .