خليج الدماء
يضع رجله على الأخرى والصحيفة الخضراء في يده، بحق تستحق أن تكون خضراء، فغصن الزيتون منيتها إلا أن الحمامة البيضاء طارت به دون رجعه، يمسكن صحيفته التي وصلت إليه بسرعة كما هي العادة عبر صندوق الاشتراك الذي أصبح يروي ظمأه، نسخته كل يوم في يده دون شقاء، وفي جولته الصحفية مع فنجان الصباح الذي يحبه من غير إضافات " قهوة سادة " كان الغلاف يعرض صورة فاقعة اللون منتفخة الأحشاء من فرط التأزم السياسي في المنطقة، في تلك الصورة يطالعنا الرئيس الإيراني (أحمدي نجاد) وهو يشير بيده كالسكين في كلمته العاصفة التي هدد فيها بقطع يد أمريكا، ومن وراء ظهره مصنعاً ضخماً للصواريخ العابرة للقارات، أرتشف قهواه في حالة من التأهب وعقله بدأ يترجم الإفرازات التي يتوقعها في المستقبل، كأنه قارئة فنجان يحتسي ويتكهن بالغد القريب والآخر البعيد، متعة يلتذ بها قبل الانطلاق إلى عمله، وبدأت حياكة التساؤلات تنفتح أمامه وهو يفتح نافذة مكتبه لتشرق منها خيوط الشمس البكر: هل هي حرب عالمية جديدة، أم إنها حيلة العاجز، أم أنها ثعلبة سياسة ليس إلا؟!، عاود إلى الصحيفة ورتشف جرعة من الفنجان، ثم قلب الصفحة ليطالعه خبر تحليلي بخصوص الخبر الفاقع التي تناقلته وكالات الأنباء كهدف ساحق في مباراة عالمية، هم يقتنصون الأخبار ويشترونها بالملايين، أصبح الخبر سلعة وبضائعة، يدفعون فيه ما لا يتوقعه المشاهد، ثم تبدأ المكيجة الصحفية لتضخيم الخبر وتعريضه، مما صور أن السعودية بدأت تلعب بأوراق مكشوف أمام العلن في مسألة التطبيع مع العدو الصهيوني الغاصب ضد جارة إسلامية مشكلتها تنطق الفارسية بطلاقة، من أين لصحيفة " تايمز" البريطانية هذا الخبر؟!، إنه سر المهنة على ما يبدو، إلا أن السعودية بذكاء حاولت أن تخرج من هذا المأزق الحرج بنفيه جملاً وتفصيلاً، وهذا ما تمناه الأشقاء الإيرانيون ليبقى الصديق صديقاً والأخ المسلم كما هو أخاً شقيقاً.. رمق الساعة وهي تقترب من السادسة والنصف، عليه أن يطوي الصحيفة ويتأبطها كما تأبط الشاعر الصعلوكي (ثابت بن جابر الفهمي) سيفه ذات مرّة، أدار محرك سيارته، وبدأت إذاعة (BBC) في جولة صباحية مركزة عن هذا الخبر الطازج، حرك عصا السيارة وضغط على البنزين لينطلق مع هذه التحليلات الساخنة، أخذ يتنقل بين المحطات الإخبارية ليستوضح الخبر، كما ينتخب الباحث النزيه عينته العشوائية لتكتمل عنده الحقيقة، الحقيقة التي بدأت غائبة في عقل المتلقى العربي المستهلك دون تحليل أو تفكير يذكر، استمع للمختلف والمؤتلف، فجهينة ضميره لا تقبل إلا الخبر اليقين، وبدأت فسيفساء الأحداث تشرخ جمجمته، توقف عند إشارة المرور الحمراء، واستوقف كل خلاياه أمام هذه الصورة الضبابية التي لا يتفق حولها اثنان، تأكيد بريطاني على صحة الخبر، ونفي سعودي لما تذيعه الصحف المغرضة، وضحية خليجية جديدة تُرتقب، الحروب لم تتوقف في هذا الخليج الذي يتنازع على تسميته الفرس والعرب، انطلق مع الإشارة الخضراء وفي عقله شريط الحروب الدامي حول هذا الخليج القاني يغطي ناظريه، كاد أن يرتطم بقطة هاربة لم تحسن فرصة الانطلاق، إلا أن الفرامل كانت قوية بمصداقية صرير العجلات، وهكذا كبح فرامل عقله وتفكيره، وانطلق محوقلاً لما سيؤول له هذا الخليج الهادر، وهو يبصق في وجه هذه القطة الحمقاء التي أسقطت قلبه وعقله معاً، وأخيراً صف سيارته أمام شركتهم وهو يقول: أخشى أن يكون هذا الخليج من نصيب الدماء !