مجتمعنا السعودي وبعبع الحرية
يقول نعوم تشو مسكي:" إن لم نؤمن بحرية تعبير من لا نحبهم، فالأوْلى أن لا نؤمن بها أبدا،... أي لا ازدواجية بحرية التعبير.. فهي حق مكتَسب للجميع.."
إن تقنين الحرية أو اختزالها في أطر ضيقة، كالانشغال بالتفكير في خلق ضوابط للحرية، هي دعاوى لا تخلو من تسطيح للمصطلح، فتجزئة الحرية لا يمكن أن تكون مطمحا، فضلا أن تكون قيمة تستأهل التنظير.
فلنحظَ أولا بالحرية، وليتشكل بعد ذلك الوعي بماهية الحرية من خلال الممارسة الفعلية لفعل التحرر، وبعد ذلك، فلنفكر في خلق ضوابط لـ"الحرية المطلقة"..
لكن الحديث المتداول في الساحة الثقافية السعودية عن الحرية، وفعل التحرر، يكاد يكون بمثابة وضع العربة أمام الحصان..، بعبارة أخرى بدلا أن ننشغل بترتيب الكراسي والسفينة تغرق بنا جميعا فلنحاول بصدق لمرة واحدة أن ننقذ ما يمكن إنقاذه من خلال التأسيس الفعلي لمصطلح الحرية وثقافة الاختلاف، علنا ننقذ الشباب من وحل الطائفية والاستقطابات المذهبية القميئة.
إن غريزة الحرية، والتحرر من قيود العبودية، لها جذور ضاربة في ضمير وعمق النفس والفكر الإنساني، أكان ذلك بصورة واعية أو غير واعية، فهي تتشكل في وعي الإنسان منذ صباه وتظل كامنة تحت غشاء اللاوعي في حالة انتظار وتوثب لحافز أو دافعية خارجية تدفعها للظهور والتجلي.أعني بالتجلي ممارسة الحرية، أي فعل التحرر، ولاشك أن للبيئة الاجتماعية عامل مهم لا يمكن تجاهله في تأسيس مفهوم الحرية وفقا للمنظومة الأخلاقية التي تتشكل في الحواضن السياسية والدينية ومنهما يستمد أفراد المجتمع آلياتهم الدفاعية المزيفة لحقيقة شعورهم الإنساني الأصيل.بعبارة أخرى..إن منظومة المقدسات وصنمية الرموز هما اللتان تشكلان وعي المنضوي تحت لواء الجماعة أيا كانت الجماعة..
فمجتمعاتنا تخشى الحرية لذلك هي غارقة في "التنظير" ويمكن أن نطلق عليها "تنظيرات ما قبل الحرية" لأن الحرية تشكلت في مفهوم البعض على أنها مرادفة للانحلال الأخلاقي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، الحرية هي نقد الثوابت والمسلمات، «وهذه العبارة تثير هلع وسعار الأوصياء وتلامذتهم» ومن جهة ثالثة الحرية كمظهر حي.. يعني خلق البلبلة وإثارة القلاقل بين أبناء الوطن «وهذه العبارة تنطلق من أبواق البلاط السياسي لكبت تمظهرات الحراك الاجتماعي والسياسي»..!
وأيضا مفهوم النقد في مجتمعاتنا يعاني من هلامية وطوباوية، فالبعض يظن أن النقد مرادف للنقض والهدم، بمعنى، أن نقد الثوابت هو هدمها ونقضها وليس بمعنى إعادة قراءتها بأدوات مغايرة كما هو بطبيعة الحال معنى النقد كما نفهمه.ولا شك أن لحراس العقائد "الكلاسيكيون"من المسكونين بنزعات قداسة التراث بأفكاره ورموزه دورٌ مهم في تزييف هذه المصطلحات وتحويرها عن سياقها اللغوي الصحيح لكي تظل حالة احتكارهم وخطفهم للدين والفكر منتعشة ً ومستمرة ً ومصونة بأغلفة اللافهم واللانقاش واللاشك..الأعمدة الرئيسة لبنيان الجهل المقدس الذي من أهم إفرازاته استعارة الفهم والتداعي الحر للرمز المقدس.
أما على الجانب الآخر من الضفة، فنجد شرطة الحداثة.. الذين بزوا الصنف الأول من خلال هوسهم وتقديسهم الأعمى وصنميتهم في التعامل مع النصوص "الحداثية"من تيارات الحداثة وما بعد الحداثة، وكأنها "أي النصوص الحداثية" بمنأى عن النقد، وغير قابلة لإعادة قراءاتها من خارج المنظومة الحداثية، بل وصل بهم الأمر إلى التحول إلى شرطة فكرية متربصة بكل قراءة مغايرة من خارج المنهج ونعتها في أحسن الأحول بـاللامنهجية..واللامنهجية تعني التمرد على الفهم الصنمي الجامد للنصوص "الحداثية".
ما أظنه..أن النقد لن يكون مثمرا إلا إذا تجرد من صنمية الأفكار المسبقة التي يوزعها رموز التيارين كعلب السردين للعباد المخلصين..!
سؤال مهم دائما يطرح في هذا السياق..هل المقدس يكتسب قداسته ذاتيا أم قداسته فعل إنساني يضفيه المتلقي على النص أو الرمز؟؟
للقداسة وجهان..قداسة ذاتية، وقداسة مختلقة ومزيفة، وللمتلقي دور كبير في تدعيم وتأصيل إحداهما على الأخرى..، هناك نص يحمل مقومات النهوض وبذور الأصالة في ذاته والمتلقي هنا عامل مساهم وليس عاملا أساسيا بمعزل عن مقومات النهوض التي يتميز بها النص ذاتيا، والنص الآخر هو النص الرديء أو ما دون ذلك، وللمتلقي هنا عامل أساسي في إضفاء القداسة "المختلقة"رغم أن النص يحمل في طياته بذور فنائه.وفي هذا السياق تقفز لنا إشكالية معقدة، وهي، إن معايير القبح والحسن ليست معايير موضوعية..بل هي لا تخرج عن إطار المعايير الذاتية والانطباعية والذوقية عند كثير من الناس، بمعنى ما هو حسن عندي قد يكون قبيحا عندك والعكس صحيح، هذا إذا سلمنا بأن المعايير النقدية ليست خاضعة لمعايير موضوعية كالعقلانية مثلا.
ولنا أن نسأل من يحدد المعايير الموضوعية العقلانية عن المعايير الذاتية والانطباعية والذوقية؟ أعتقد أن كل تيار سيرتهن الموضوعية دون الآخرين..؟ هذا ما نلاحظه في الصراعات الدائر رحاها في الساحة الثقافية السعودية بين مختلف الأطياف الفكرية والدينية، ارتهان للحقيقة وخطف للمعرفة واحتكار للفضيلة وكل يجر النار إلى قرصه إلا من رحم ربي.
بكل أمانة مجتمعنا في غالبيته العظمى يتوق للحقائق المزخرفة بمساحيق التجميل التي تغذي نرجسيته، أما الحقائق الصارخة العارية من بهرج الزيف يقف أمامها موقف ريبة وتوجس هذا إن لم نقل رفضها ولعنها ورشقها بالحجارة..! لذلك كما هي الحرية نجد الحقيقة أيضا انضمت لسرب العاطلات عن العمل "المُعطلات"على الأرصفة العربية مع أخواتها العوانس.. الفضيلة والنزاهة والعدالة والحرفية والمصداقية وأمهم جميعا الديمقراطية الأرملة المذبوحة من الوريد إلى الوريد في الوطن العربي الكبير..!
نحن في حاجة ماسة لتدشين مرحلة من الوعي.. بدءا ً من الأسرة إلى المدارس والمساجد والجامعات بثقافة الحرية وحق الاختلاف في ظل العيش المشترك وأن أقدس المقدسات هي حرية الرأي هذا إذا شئنا حقا أن ينهض المجتمع من كبوته.
وقانا الله وإياكم شر غربان الخرائب الذين عاثوا فسادا في عقول العباد ومقدرات البلاد..!