ازدحام
أقبلتُ نحوهم بوجه تغمره البهجة، ممسكًا بيدي ضيفًا جديدًا، وقلت بحماسة: ”ها قد أحضرت لكم رفيقًا آخر!“
فجأة، قاطعني أحدهم بنبرة ضجر: ”أما زلت تُضيف المزيد؟ المكان ضاق بنا، أين سيجلس هذا الضيف الجديد؟!“
ابتسمتُ ونظرت إليه بهدوء: ”لمَ القلق؟ العالم فسيح...“
لكنه أصرّ، وقد ارتسمت على وجهه علامات التذمر: ”بل هنا، في هذا المكان الصغير، أصبحنا متلاصقين! وعدتنا أن تتوقف، لكنك تعود كل يوم ومعك ضيف جديد!“
تنهدتُ قائلاً: ”وكيف لي أن أتوقف؟ أنا شغوف بهم، أجد في كل واحد منهم لونًا من الحياة، نبضًا مختلفًا، فكرة جديدة تنير أيامي.“
تدخل آخر، مستنكرًا: ”ألوان الحياة؟ بل هم زحامٌ يخنقنا! بالكاد نجد لأنفسنا نسمة هواء!“
نظرتُ إلى ضيفي الجديد وقلت له بأسف: ”لا عليك، في البداية يتذمرون، لكنهم يحملون قلوبًا نقية، أعرفهم جيدًا.“
كل واحد منهم له حكاية... كل واحد كان له أثر جميل في حياتي.
تقدمتُ نحو أحدهم وسألته: ”لماذا أنت صامت؟“
ابتسم بخفوت، وقال: ”وماذا عساني أن أقول؟ لقد أضفت ضيفك الجديد، وهذا أمرٌ لا رجعة فيه، لكنني أشعر بسعادة وحزن معًا.“
تعجبتُ: ”سعيد وحزين في آنٍ واحد؟ لماذا؟“
أجابني بصوت هادئ: ”سعيد لأنك لم تتخلَّ عن عادتك الجميلة، وحزين لأنني أخشى أن تُهمل هذا الضيف كما فعلت مع غيره. كم من ضيف جلبته إلى هنا، ثم نسيته بعد حين؟“
أحنيتُ رأسي قليلًا، وقلت معترفًا: ”ربما أنت محق... لكنني أحبهم جميعًا، وأحاول أن أجد لكل منهم وقتًا.“
قاطَعَنا صوت غاضب: ”أنت ظلمتني!“
التفتُّ نحوه، وعرفته على الفور. كان صديقًا قديمًا، أول من رافقني في رحلتي. قلت له معتذرًا: ”يا عزيزي، كيف أكون قد ظلمتك؟ أنت أول من عرفت، تعلمت منك الكثير، وما زلت أذكر نصائحك جيدًا.“
قال بأسى: ”لكن منذ فترة طويلة لم تتحدث معي...“
ربتُّ على غلافه برفق وقلت: ”أنت في قلبي، وإن طال الغياب.“
لكن أين سيجلس ضيفي الجديد؟
قال أحدهم مستنكرًا: ”أرجوك، لا تضعه فوق رؤوسنا! هذا ليس منظرًا لائقًا!“
نظرتُ حولي، فوجدت المكان مزدحمًا بالفعل. لقد حاولتُ توسعته، لكنه امتلأ سريعًا.
ثم جاءني اقتراح صادم: ”لمَ لا تتخلص من الضيوف القدامى؟ الذين مضى عليهم أكثر من عشرين عامًا؟ دعهم يرحلون!“
غضبتُ، وقلت بحدة: ”أتطلب مني أن أتخلى عن من أحب؟! هؤلاء رفاق الدرب، جزء من ذاكرتي! قل خيرًا أو اصمت!“
اعتذر بصوت خافت، فتنهدتُ وعُدتُ أبحث عن حل.
نظرتُ إلى الضيف الجديد، وابتسمتُ قائلًا: ”لو كنت نحيفًا، لوجدت لك مكانًا بسهولة، لكنك سمين!“
ضحك وقال: ”لكنني مفيد! أين أجلس إذن؟“
فكرتُ قليلًا، ثم خطرت لي فكرة: ”سأعيد ترتيب المكان، لا بد أن أجد لك موضعًا!“
طلبتُ من أحدهم أن يتحرك قليلًا، فتأفف قائلًا: ”ألا ترى الزحام؟ إلى أين سأذهب؟“
أقنعته بعد جهد، ثم نقلتُ آخر إلى جوار صديقه، فصار هناك فراغٌ صغير. أخيرًا، وجدت لضيفي الجديد موضعًا مناسبًا، لكنه ما إن جلس حتى صاح:
”أكاد أختنق! المكان ضيق!“
وانطلقت أصوات الاحتجاج من حوله: ”ارحمنا! لم يعد هناك متسع!“
نظرتُ إليهم بحب، وقلت بوعدٍ صادق: ”أعدكم، لن أجلب لكم ضيفًا آخر...“
ثم ابتسمتُ وأضفتُ بصوت خافت: ”... لكنني سأنتقل إلى مكان أوسع!“
أدرتُ بصري نحو مكتبتي العزيزة، ومسحتُ الغبار عن أحد أرففها، ثم همستُ لكتبي بحنو:
”سامحوني... لا أستطيع أن أعيش دونكم.“