الشخصية الكذوبة.. شخصية إجرامية
جعل الأكاذيب عادة:
عام 2017، نشرت مجلة ”نيتشر نيوروساينس“ «Nature Neuroscience» مقالًا سلطت فيه الضوء على هذه العملية، لفهمها بشكل أفضل، سنقدم مثالًا: تخيل شابًا تولى منصبًا مرموقًا في الشركة التي يعمل فيها، وللتعبير عن القيادة والثقة في موظفيه يلجأ إلى القليل من الأكاذيب، هذا التنافر وهذه الأفعال الصغيرة المستهجنة تجعل اللوزة تتفاعل.
بهذه الطريقة، ينتهي المطاف بهذا الشاب إلى جعل الأكاذيب عادة لأن عمله يقوم بالفعل على الاستخدام الدائم والمتعمد للخداع، وعندما يكون هذا النهج معتادًا، تتوقف اللوزة عن التفاعل وتخلف نوعًا من التسامح مع الكذب وتتوقف عن إصدار أي نوع من ردود الفعل العاطفية، وبالتالي يختفي الشعور بالذنب ولا يشعر الشخص بالندم، وهذا يعني أن عقل الكاذب يتكيف مع الكذب.
أشارت تالي شاروت، الخبيرة في علم الأعصاب الإدراكي في كلية لندن الجامعية، إلى أن هناك بالفعل مكونًا بيولوجيًا يتدخل في هذه العملية، ولكن هناك أيضًا عملية تدريب، إن بنية الدماغ المرتبطة مباشرة بهذه السلوكيات غير النزيهة هي بلا شك اللوزة الدماغية «Amygdala». يخوض عقل الكاذب في الواقع عملية تدريب ذاتي معقدة، حيث ينتهي به الأمر إلى الاستغناء عن أي عاطفة أو شعور بالذنب.
الكذب يجعل الدماغ يعمل بطريقة مختلفة:
من يكذب يحتاج إلى شيئين: الذاكرة والبرود العاطفي، وهو ما تطرق إليه أستاذ علم النفس دان آريلي في كتابه ”لماذا نكذب… خاصة على أنفسنا: علم الخداع“.
وفي تجربة أجراها، كشف أن بنية دماغ المصابين بالكذب المرضي تحتوي على مادة رمادية أقل بنسبة 14% بينما كان لديهم مادة بيضاء أكثر بنسبة ما بين 22 و26% في قشرة الفص الجبهي. يعني هذا أساسًا أن دماغ الكاذب يقيم العديد من الروابط بين ذكرياته وأفكاره، ويسمح له هذا الاتصال بإضفاء الاتساق على أكاذيبه.
وأوردت الكاتبة أن دماغ الكاذب يتكون من مجموعة من الدوافع الغامضة، ويخفي الشخص الذي اختار أن يجعل الأكاذيب أسلوب حياة سلسلة من الأهداف المحددة للغاية التي تشمل بالأساس الرغبة في السلطة والمكانة والهيمنة والمصلحة الشخصية. هنا ينتهي ما تم سرده كمقدمة لفهم لب المقال.
مقدمة بحثية تخصصية منقولة تكشف لنا بصورة ناصعة تحليل الشخصية الكذوبة، حيث تبين لنا أن الشخصية الكذوبة شخصية مريضة وفاسدة سلوكيًا وفكريًا وفقيرة أخلاقيًا، بل معدومة الأخلاق والقيم والمبادئ، بل هي شخصية غير سوية وغير إنسانية وخارجة عن المفاهيم الإنسانية؛ لأنها شخصية عدوانية وخطرة اجتماعيًا، وقد بينت المقدمة البحثية أعلاه أن الشخصية الكذوبة شخصية إجرامية لا تشعر بتأنيب الضمير، أي بلغت أقصى درجات الشيطنة والانحطاط وموت الروح الإنسانية فيها.
قمت بتقديم آراء العلماء الغربيين المتخصصين في مجال علم الاجتماع والنفس لكي نعرف وجهة نظرهم نحو الشخصية الكذوبة والكريهة والملفوظة اجتماعيًا حتى يتبين لدى بعض القراء توافق الرأي الديني مع الرأي العلمي الحديث المرتبط بحياة الإنسان العصري.
إذن، دعونا نذهب كذلك لنرى ماذا يقول الدين الحنيف عن الشخصية الاجتماعية الكذوبة:
قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ «سورة النحل، آية 105».
وفي هذه الآية الكريمة إشارة خطيرة جدًا حسب تفسير الميزان خلاصتها أن الكاذبين لا يهديهم الله إليه ولا إلى معارفه الحقة الظاهرة، وهذا يعني أنهم مغضوب عليهم من قبل الله سبحانه وتعالى وعاقبتهم ولهم عذاب أليم.
قال رسول الله : ”ما يزال العبد يكذب حتى يكتبه الله كذابًا“ «12». - عنه
: ”ما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا“ «13».
الإمام علي : ”ما يزال أحدكم يكذب حتى لا يبقى في قلبه موضع إبرة صدق، فيسمى عند الله كذابًا“.
«ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج3 الصفحة 2676»
قال رسول الله : ”الكذب يسود الوجه“ «بحار الأنوار ج77 ص 69».
وعنه يقول: ”الكذب ينقص الرزق“ «ميزان الحكمة ج10 ص71».
وعنه يقول: ”لا رأي لكذوب“ «مستدرك الوسائل ج9 ص 88».
وعنه يقول: ”من أعظم الخطايا اللسان الكذب“ «بحار الأنوار ج21 ص 211».
وعنه يقول: ”الكذب فساد كل شيء“ «ميزان الحكمة ج10 ص 71».
وعنه يقول: ”كثرة الكذب تفسد الدين وتعظم الوزر“ «ميزان الحكمة ج10 ص71».
قال أمير المؤمنين الإمام علي : ”لا سوء أسوأ من الكذب“ «بحار الأنوار ج72 ص259».
قال الإمام محمد بن علي الباقر : ”إن الكذب هو خراب الإيمان“ «بحار الأنوار ج72 ص 247».
قال الإمام الحسن بن علي العسكري : ”جعلت الخبائث كلها في بيت وجعل مفتاحها الكذب“ «بحار الأنوار ج72 ص 263».
قال الإمام علي : ”يكتسب الكاذب بكذبه ثلاثًا: سخط الله عليه، واستهانة الناس به، ومقت الملائكة له“ «ميزان الحكمة ج10 ص 72».
وعنه : ”لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يترك الكذب هزله وجده“ «بحار الأنوار ج 72 ص 260 ح 29».
وعن الإمام جعفر الصادق قال: ”إن الرجل ليكذب الكذبة فيحرم بها صلاة الليل“ «بحار الأنوار ج 72 ص 260 ح 29».
وعن رسول الله قال: ”وكثرة الكذب تذهب البهاء“ «بحار الأنوار ج 69 ص 249 ح 14».
وبعد هذه النبذة المختصرة عن صفة الكذب والشخصية الكذوبة المذمومة والمكروهة في كتاب الله وسنة رسوله المصطفى وآل بيته الأطهار
وفي نظر العلماء الحداثيين وفي المجتمع، يبقى عندنا السؤال الجوهري الذي ينبغي أن نتساءله: لماذا ينحو البعض نحو الكذب في حياته ويجعلها وسيلة رئيسة له؟
لمعرفة الإجابة على السؤال المهم ينبغي هنا الرجوع إلى دراسة ظروف النشأة التي أحاطت بهم والحاضنة التي ترعرعوا فيها، باعتبار أن بيئة الإنسان هي من تشكل مركز الإشعاع وهي من تقود عوامل التربية والتغذية الفكرية والدينية والثقافية.
على سبيل المثال لا الحصر، معرفة سلوك الآباء في تعاطيهم مع هذه الزاوية الأخلاقية باعتبارهم يمثلون القدوة لأبنائهم، بل يعدون الطرف الأول المؤثر على تكوين شخصية أبنائهم، أما الطرف المؤثر الثاني فهو سلوك أفراد الأسرة وانعكاساتها على الفرد، ويكمن الطرف المؤثر الثالث في الثقافة التي يتزود منها الأبناء، في حين يمثل الوازع الديني الطرف المؤثر الرابع، والمؤثر الخامس والأخير هو المجتمع. كل هذه المؤثرات وغيرها التي تلامس حياة الإنسان لها تأثير مباشر على تكوين شخصية الفرد في الإيجاب والسلب.