شماعة المدير بين الواقع والوهم
المدير في تصوّر البعض كائن استثنائي لا يُخطئ، فإن أخطأ نُعِت بالضعف، وإن لم يُخطئ أُتُّهم بالقسوة والشدة فهو المتهم الأول والأخير في كل إخفاق، والمتسبب في كل خلل، فإن تعثر العمل قالوا إنه لم يُتابع ولم يتحمّل المسؤولية، وإن تدنّت النتائج زعموا أنه لم يُحفز ولم يُقدّر، يُراد منه أن يكون القدوة والملهم، والمحاسب، والمنفذ في آن واحد، وهكذا.. يتحول المدير إلى واجهة دائمة للوم، وهدف مفتوح للسخط، وإلى شماعة يُعلق عليها كل إخفاق، حتى وإن لم يكن له فيها يدّ
لكن الحقيقة كما يعتقد الكثير من المختصين، أكثر تعقيداً بكثير من صورةٍ مُعلّقة في ذهن موظف مستاء أو تصور انفعالي لمرؤوس يشعر بالإحباط، أو رواية تتناقلها الألسن في لحظات الامتعاض.
فالمدير لا يعيش في فراغ، ولا يعمل في عزلة مثالية، بل هو محاط بإدارة أو مجلس إدارة أعلى لا يعرف الأعذار، ولا يعترف بالضغوط، وبين نفسٍ تلوم وتبرر، أو تُهادن، وبين مرؤوسين تتأرجح علاقتهم به بين التقدير حين يُعطي، والتذمر حين يُطالب، وبيّن طموحات عُليا، وموارد محدودة، وأصوات كثيرة، تختلف في الرؤية وتتوحد عند لحظة اللوم.
فكم من مدير مُبدع أُجهِضت أفكاره لأنه لم يُتقن فن التزلف أفقن العزف على أوتار المجاملات، وكم من مدير عادل شوهت صورته لأنه قال ”لا“ حيث يُنتظر منه الصمت، ولم يُجامل مُتقاعسا أو يساير ضعيفا، وكم من مسؤول تحمّل مالم يرتكبه لا لشيء، إلا لأنه ”المدير“
لكننا هنا لا نبّرئ كل مدير، فبعضهم بحق يستحق أن يُعلّق عليه الفشل لا شماعة الفشل، لأنهم مديرون غائبون متعالون، لا يُقدّرون جهود الآخرين، ولا يحسنون الاصغاء، ولا يعترفون بالأخطاء، ولا يثقون بأحد، مديرون يُديرون بالخوف والترهيب، وبالمحاباة والعلاقات الشخصية، لا بالحكمة والعدالة والكفاءة، ومن الطبيعي أن تتكاثر الأخطاء في مؤسساتهم وتنتشر السلبيات والإحباطات من حولهم.
لكن الأخطر في رأيي من كل ما سبق هو أن تتحول هذه الحالة من مجرد سلوك فردي عابر إلى ثقافة مؤسسية راسخة، ثقافة تُكافئ المشتكي وتُهمّش المجتهد، ثقافة تُهلل لمن يُلقي باللوم على غيره، بدلا من تحمّل المسؤولية والسعي للإصلاح، وهنا يبرز السؤال المهم الذي يطرح نفسه وهو:
هل ما يفعله بعض المرؤوسين من تعليق إخفاقاتهم على شماعة المدير أمرُ مبرّر أم أنه، هروب ناعم من الاعتراف بالتقصير؟ وهل المدير دائماً هو المتهم أم أن بعض المرؤوسين يجيدون فن الاتهام أكثر من فن الإنجاز؟ وماهي العلاقة بين المسؤولية والتبرير، وبين القيادة والتنصل، وكيف ينعكس هذا الفهم على بيئة العمل والأداء المؤسسي؟ وماهي الحلول والمعالجات؟. في هذا المقال سنطرح هذه الأسئلة للنقاش والتحليل بإيجاز مع تقديم الحلول المناسبة فابقوا معنا.
شماعة المدير
لا غرابة أن يشتكي كثير من المرؤوسين من الضغوطات اليومية في بيئة العمل، وأن يروا في مديرهم مصدراً لمعظم هذه الضغوطات نتيجة لكثرة التكاليف وتعاقب المهام دون توقف، وهذا أمرُ قد يُعد طبيعياً في السياقات المؤسسية إذ يُنظر إلى المدير غالباً على أنه حلقة الوصل بين الإدارة العليا وبقية الفريق، وهو ما يجعله في مرمى التوقعات والانتقادات على حدًّ سواء، ولكن أن تُعلق كل الإخفاقات، وأوجه القصور، وحتى الفشل المهني على شماعة المدير، فهُنا تبدأ الإشكالية، لأنك ما إن تجلس مع المدير وتستمع إلى وجهة نظره، حتى تكتشف أن الصورة التي رسمها بعض الموظفين أو روج لها بعض المرؤوسين لا تعكس الواقع كما هو، بتلك السوداوية بل قد تكون محمّلة بالمبالغة أو الانتقاء.
فبعض الموظفين مع الأسف الشديد يميلون إلى اختزال المشكلة في شخص المدير، لا لشيء سوى للهروب من نقذ الذات وتحمُّل المسؤولية. وكما أن على المرؤوس التزامات، ومسؤوليات مهنية تجاه مديره ومؤسسته، فإن للمدير أيضاً تحدياته، ومسؤولياته تفرضها عليه الإدارة العليا، وأنه في موقع يتلقى الضغوطات من الأعلى كما يواجه المطالب من الأسفل.
فالمعادلة ليست مديراً دائماً مُخطئاً، ومرؤوساً دائماً مُحق، بل هي منظومة تتكامل أطرافها حين يسود العدل وتنهار حين يغيب الإنصاف في النظر والتقييم. وكما يقول المثل الإنجليزي الشهير: The bad workman blames his tools أي أن الصانع المهمل يُلقي باللائمة على أدواته، فإن الموظف غير المنجز قد يختبئ خلف أعذار واهية، تماماً كما قد يتنصل المدير غير الكفء من مسؤوليته بإلقاء التهم يمنة ويسرة.
والسؤال الآخر الذي يطرح نفسه هنا هو ”هل الضغط“ أو «الإرهاق» هو المشكلة أم ”التكيف معها“ هو الذي ينبغي مناقشته؟ والواقع يقول إن الضغط جزء من طبيعة العمل والحياة ككل، والناس هم من يتباينون في التعامل مع الضغوطات. يقول تعالى في محكم كتابه العزيز ”لقد خلقنا الإنسان في كبد“ أي أن المرء جُبل على مكابدة مشاق الحياة وشدائدها.
إذن هي مسألة تكيف وواقع، ولأنها كذلك فإن أمام المديرين في بيئة العمل خيارات عديدة لتخفيف وطأة الضغوطات منها على سبيل المثال لا الحصر زيادة تعيين موظفين جدد أو تفعيل وإشراك أولئك المتراخين الذين يتفرجون على ”الكادحين“ وهم يعملون ليلاً ونهارا.
كما أن الضغوطات أمرُ لا مفرّ منه في ميادين الحياة، والوظيفة التي تخلو من الضغوطات تحوم حولها علامات استفهام حول مدى جدّيتها أو قيمتها المضافة للعاملين فيها.
قضاة بلا إنجاز
من الظواهر اللافتة في بيئات العمل أن الموظفين غالبا ما يربطون مصير الإنجاز أو الإخفاق بشخص المدير باعتباره الهدف الأقرب والاسهل للتفسير والاتهام، فبدلا من تحليل العوامل البنيوية، والموارد المتاحة وظروف العمل، وطبيعة المهام وغيرها، يلجؤون إلى تبسيط المشهد عبر تعميم الحكم ”المدير هو السبب“، وهذه الملاحظة وإن كانت مفهومة في بعض السياقات إلا أنها تُعد إشارة إلى غياب الوعي المؤسسي المتكامل
وقد أظهرت دراسة نُشرت في مجلة ”Harvard Business Review“ أن 58% من الموظفين يربطون مستوى رضاهم الوظيفي بأداء المدير المباشر فقط دون النظر إلى بقية المتغيرات المؤسسية، وهذا ما يُفسر شيوع ما يمكن تسميته بظاهرة:
”القيادة المذنبة دائماً“
ويُقصد بها تحميل القائد أو المدير بشكل دائم ومطلق مسؤولية الإخفاقات والتقصير وحتى المشكلات التي قد لا تكون ضمن نطاق سلطته المباشرة أو مسؤوليته الحصرية، مثل انخفاض المبيعات دون النظر إلى تغيّر السوق أو ضعف التسويق، أو تأخر المشاريع حتى لو كانت العقبات خارج عن إرادته وما إلى هنالك..، وقد يُعد هذا الامر خطيراً لعدة أسباب منها.
منح الافراد غطاءً نفسياً يبرر لهم التقاعس أو قلة المبادرة باعتبار أن المدير وحده هو المسؤول، وكذلك إشغال المديرون بتبرير المواقف أو اتقاء الانتقادات بدلا من التركيز على التطوير والتحسين والتحفيز، وكما وقد يعزز عقلية البحث عن ”المذنب“ بدلا من البحث عن ”الحل“ وهو ما يقوّض بيئة العمل الصحية ويعيق النمو والتعلم الجماعي. ولذلك حين تسود عقلية ”القيادة المذنبة دائماً“ ويُسمح لبعض الموظفين أن يتحولوا إلى قضاة بلا إنجاز فإن المؤسسة غالباً ما تفقد إحدى أهم ركائزها، وهي المسؤولية المشتركة
بين التبرير والتنصل
حين تختبئ القيادة خلف الظل وتغيب المسؤولية عن الواجهة تتحول البيئة إلى حلبة من الاتهامات المتبادلة ويُصبح المدير هو الشماعة الجاهزة لتعليق كل فشل، ومع مرور الوقت تنفصل المسألة عن الحقائق أو النتائج لتتحوّل إلى مسرحية مُكررة يُتقن الجميع فيها أداء أدوارهم: الموظف يًخفق في الإنجاز فيُلقي باللوم على
مديره، والمدير يبرر عجزه بالضغوط من الإدارة العليا، والإدارة تختفي خلف اللوائح أو التعليمات، وبين هذه الحلقات المفرغة تُهدر الطاقات وتتآكل الثقة، فعلى سبيل المثال، في إحدى الدراسات التي أجريت على أكثر من 230 شركة في المنطقة العربية تبين أن 74% من الموظفين يُحمّلون المدير المباشر المسؤولية، بينما لم تتجاوز نسبة 11% ممن حمّلوا ”الإدارة العليا“ المسؤولية، وهو ما يكشف عن ميل نفسي وثقافي لاختزال المشاكل في شخص بعينه بدل من مواجهة السياق المؤسسي بأكمله
إلى أين نمضي
من واقع الملاحظة والتجربة أرى أن الأمر أعمق من مجرد تقصير فردي، بل هو نتيجة تراكمات هيكلية وغياب للمساءلة، وتداخل في الأدوار والصلاحيات، والمؤلم في ذلك أن المؤسسة هي من ستدفع الثمن في النهاية، ولذلك لم يعد كافيا ً أن نصف المشكلة او ننتقدها، بل أصبح من اللازم، ومن الضروري أن نفتح هذا الملف بشجاعة، وأن نقدّم حلولا واقعية تعالج الجذور لا الأعراض، ونُعيد التوازن داخل المنظومة الإدارية.
وفيما يلي: أضع بين يدي القارئ العزيز خلاصة أفكار ومعالجات أؤمن بأهميتها، مستمدة من التجربة والملاحظة اليومية وهي كالتالي:
1 - أن تتوقف الإدارة عن تحميل شخص واحد كل الأعباء، أو ترك الأمور تمشي بالبركة، وتبدأ بتقسيم العمل بشكل واضح بين الموظفين، بحيث يعرف كل شخص ماله وماعليه، ويصبح من السهل محاسبته أو دعمه عند الحاجة، دون مجاملات أو تبريرات غامضة، كأن تسند الشركة أو المؤسسة أكثر من مهمة لشخص واحد بحجة أنه ”الأكثر نشاطاً“ مثل التنسيق مع الموردين، ومتابعة طلبات العملاء والمشتريات وو..، وما إلى هنالك.
2 - حين يُخطئ الموظف أو المدير، لا يليق به أن يلوذ بالملفات القديمة أو يُنبش في دفاتر الأعذار، متذرعا بأنه يحتاج أن يعود ليتأكد أو يتحقق: إذ في كثير من الأحيان لا يكون ذلك سوى محاولة خفية للفرار من الاعتراف، فالمسؤول الحقيقي لا يختبئ خلف الورق بل يتقدم بخطئ واثقة ليقرّ بالخطأ، ويواجه تبعاته بشجاعة ومسؤولية.
3 - ليس من الحكمة أن يترك المدير المشكلات تتراكم حتى تنفجر، ثم يظهر متأخراً كمن جاء ليطفئ الحريق بعد أن التّهم الجمر أركان المكان، فالقائد الحقيقي هو من يبادر بالحركة، وينزل إلى الميدان، ويواجه بعينيه، ويقف جنباً إلى جنب مع فريقه بحثاً عن الحل
الخاتمة والخلاصة
إن ”شماعة المدير بين الواقع والوهم“ تكشف عن خلل عميق في فهم المسؤولية داخل المؤسسات، فالمدير ليس دائما مذنبا، كما أن القيادة ليست دائماً بريئة، وبين التبرير والتنصل تضيع الحقيقة، ويفقد الفريق توازنه ولذلك لابد من ترسيخ ثقافة القيادة الشفافة التي لا تختبئ، والمدير الواعي الذي لا يبرر، والموظف المسؤول الذي لا يُسارع بالاتهام، وعندها فقط تُكسر الشماعة، وتُبنى المؤسسة الناجحة