العزيمة رحلة لا تعرف التوقف
من منا لم يسمع بقصة الأرنب والسلحفاة؟ تلك الحكاية الرمزية التي تُروى للأطفال منذ نعومة أظفارهم حتى تغدو جزءاً لا يتجزأ من الوعي الجمعي، بما تحمله من دلالات تربوية وإدارية عميقه.
تقول القصة إن الأرنب تهكم من بطء السلحفاة وتحدّاها في سباق أراد من خلاله أن يثبت تفوقه المطلق وسرعته الاستثنائية، وما إن انطلقت صافرة البداية حتى اندفع الأرنب بخطوات سريعة معتمداً على موهبته الفطرية وثقته المفرطة بنفسه، لكنه استهان بالمسافة وأوقف تقدمه ليستريح ويستسلم للنوم، مطمئناً إلى أن السلحفاة لن تستطيع اللحاق به.
وفي المقابل واصلت السلحفاة مسيرتها بهدوء وانضباط وبخطوات ثابتة حتى بلغت خط النهاية وفازت في الأخير بالسباق لتؤكد للأرنب، ”أن النجاح الحقيقي لا يعتمد فقط على السرعة أو الموهبة الفطرية أو الظروف المواتية، بل على المثابرة والصبر والانضباط على المدى الطويل“، وأن كل خطوة صغيرة متواصلة تحمل في طياتها قوة التغيير والتحقيق الفعلي للأهداف
وتستكمل الحكاية أن الأرنب تعلّم درساً قاسياً من غروره وثقته العمياء بقدراته الخارقة، فعقد مع السلحفاة سباقاً جديداً عاقداً العزم على عدم تكرار الخطأ السابق، وبالفعل التزم بالركض حتى خط النهاية وانتصر.
غير أن مغزى الحكاية لم يتوقف عند ذلك، إذ اتفقت السلحفاة والأرنب لاحقاً على السباق مرة ثالثة ولكن عبر نهرٍ يفصل خط البداية عن خط النهاية، وهنا استخدمت السلحفاة مهارتها الطبيعية في السباحة وتفوقت على الأرنب، ليكتشف الطرفان أن التفوق الحقيقي لا يقوم على الميزة الفردية المعزولة، بل على التكامل، والتعاون وتبادل الخبرات والتجارب.
القراءة الإدارية للقصة
إذا تأملنا هذه الحكاية من الزاوية الإدارية نجد أنها تحمل أبعاداً عميقة ترتبط بمفاهيم إدارية مثل التخطيط والانضباط، والرقابة، والتعلم التنظيمي.. وذلك على النحو التالي:
1 - التخطيط «planning»
اعتمد الأرنب هنا على السرعة كميزة تنافسية، لكنه فشل في وضع خطة متكاملة للوصول إلى الهدف، وكما قال هنري فورد ”إن التفكير أصعب الأعمال، وهذا هو السبب في أن قليلين من يختارونه كعمل“ بينما السلحفاة وضعت ”استراتيجية بسيطة لكنها واضحة“ التقدم بخطوات ثابتة دون توقف، وقد اشارت دراسة Mintzberg «وهي مجموعة من النظريات والأفكار الثورية في مجال الإدارة والهيكل التنظيمي للمنظمات والمنتسبة إلى العالم الكندي هنري مينتزبرغ أحد أبرز المفكرين في مجال الإدارة الاستراتيجية»، إلى أن التخطيط الاستراتيجي الفعال: هو ما يوازن بين الطموح والواقعية ويأخذ في الحسبان كافة المتغيرات، فالتغير قد يكون فجائياً وشاملاً، أو قد يكون بطيئاً أو بالتدرج، ولكن المهم أن الأشياء لا تبقى أبداً على حالها ساكنة، بل تتغير باستمرار.
2 - الانضباط والتنفيذ «Execution»
جسّدت السلحفاة الانضباط الإداري: إذ التزمت بخطتها التنفيذية دون انحراف، ففي دراسة أجرتها Harvard Business Review عام 2017 تبين أن 67% من الاستراتيجيات تفشل ليس بسبب ضعف الفكرة بل بسبب سوء التنفيذ، وهنا تكمن عبقرية الأداء، فالفكرة مهما بلغت درجة روعتها أو جمالها تظل حبيسة الأدراج مالم تُترجم إلى أفعال على أرض الواقع، فالانضباط في التنفيذ أو في التصرفات هو الجسر الرابط بين عالم التخطيط النظري وواقع الإنجاز الملموس، بل هو الضامن الوحيد لتحويل الطموحات إلى إنجازات والأهداف إلى نتائج
3 - الرقابة Controlling»»
الأرنب لم يُراقب أداءه في أثناء السباق ولم يضع معايير لقياس تقدمه، بينما السلحفاة التزمت بمؤشر أساسي واحد: الاستمرار حتى النهاية، وهذا يعكس ما أشار إليه المفكر الإداري بيتر دراكر بقوله " مالا يمكن قياسه لا يمكن إدارته، والمعنى هنا أن الرقابة هي عين الإدارة التي ترى بها مدى تقدمها، وأذنها التي تسمع بها نبض الأداء، وبدون القياس تفقد الإدارة بوصلتها وتصبح الجهود مجرد عبث عشوائي لا يحقق أية غاية.
4 - التعلم التنظيمي Organizational Learning»»
السباقات اللاحقة تبرز أهمية التعلّم من الأخطاء والتكيف مع البيئة، فالأرنب تعلّم من خطئه السابق، والسلحفاة وظفت نقاط قوتها الطبيعية عند تغيير ساحة المنافسة، ووفقاً لدراسة صادرة عن McKinsey عام 2019م فإن المؤسسات التي تتبنى ثقافة التعلم المستمر تزيد احتمالية بقائها في السوق بنسبة 30% أكثر من نظيراتها.
الدروس المستفادة إدارياً
لا تعد هذه الحكاية مجرد قصة أخلاقية تُروى للإلهام بل أصبحت نموذجاً إدارياً تزخر كل محطة من محطاتها بحكمة قيادية عميقة تقدم للقائد Modern Manager دروساً لا تقدر بثمن في فنون الإدارة والقيادة، ومنها
1 - التكامل بين التخطيط والتنفيذ:
فالتخطيط بدون انضباط في التنفيذ هو ضرب من التمني، و”التنفيذ المبني على الجهد العشوائي“ «أي بذل أقصى الجهود والطاقات ولكن بدون تخطيط مسبق واضح، أو أهداف محددة قابلة للقياس» وهو ما يشبه إلى حد كبير حالة ”الأرنب“ في القصة، فهو يركض بسرعة فائقة وبجهد كبير، لكنه لم يخطط للمسافة ولم يحدد معالم الطريق، ولم يضع مؤشرات لقياس تقدمه «تنفيذ بلا خطه» ولذلك ضاعت كل جهوده هباءً منثوراً، بينما التنفيذ الفعّال: يعني الحركة الواعية والمنضبطة المدعومة بالرقابة لضمان الاستمرارية، وكما قيل ”لا تُكافئ على الجهد بل كافئ على النتيجة“
2 - القياس والتقويم المستمر:
تُبرز القصة أن الثقة العمياء في الموهبة دون مراقبة الأداء هي بداية الطريق إلى الفشل، ولذلك يجب على المنظمات أو المؤسسات أو الأفراد الذين يرغبون في تحقيق النجاح أن يعتمدوا على ما يُسمى بمؤشرات الأداء الرئيسية ”KPIs“ فتكون أهدافهم محددة زمنياً، وواضحة، وقابلة للقياس، وواقعية، ومرتبطة مباشرة بالهدف لتكون بمثابة نقاط مرجعية على الطريق تضئ المسار وتحذر من الانحراف، فبدون ذلك تكون الإدارة مثل القيادة بعينين مغمضتين، حيث لا تعرف أين هي وإلى أين تتجه أو ما إذا كانت تقترب من وجهتها أم لا.
3 - التعلم والتكيف كاستراتيجية بقاء:
تطور أحداث القصة يؤكد أن الجمود والاستسلام هو موت محتم، بينما المرونة والتعلم المستمر هما الحياة، فالمنظمات أو المؤسسات أو الأفراد الأذكياء هم الذين لا يكتفون بتصحيح الأخطاء فحسب، بل يتعلمون منها تماماً كما فعل الطرفان عندما حوّلا التنافس إلى تعاون في السباق الثالث
4 - تحويل الفردية إلى تعاضد جماعي:
إن الدرس الأعمق الذي ينبغي الاستفادة منه في هذه القصة هو أن القيمة الحقيقية لا تكمن في تفرد المؤسسات أو الأفراد وإنما في قدرتهم على توحيد مواهبهم وتخصصاتهم المتباينة لخلق قيمة أعظم، مثل شركة ”تسيلا“ التي أسسها إيلون ماسك، والتي لم تنجح فقط بسبب عبقريته، بل بسبب قدرته على جمع فريق من المهندسين المتميزين، وخبراء الطاقة، ومصممي البرمجيات وعلماء المواد لدمج التقنيات المختلفة وإنشاء منتج ثوري يجمع بين الابتكار في الطاقة والذكاء الاصطناعي والتصنيع المتقدم، فالتعاون بين هذه الكفاءات المتنوعة هو الذي أنتج سيارة كهربائية بل نظاماً متكاملاً للطاقة المستدامة.
إن اعتراف الأرنب بمهارة السلحفاة في السباحة، واستفادة السلحفاة من سرعة الأرنب، هو تجسيد لنموذج القيادة التكاملية Integrative Leadership والذي هو نموذج قيادي يهدف إلى توحيد جهود الأفراد والفرق والمؤسسات المختلفة لتحقيق هدف مشترك يتعذر تحقيقه بشكل منفرد، وكما قال بيتر دراكر ”لا توجد منظمة أصبحت عظيمة بوجود قائد عظيم واحد فقط، بل أصبحت عظيمة بوجود فريق قيادي عظيم“ وكما قال ايضاً المفكر الإداري وارن بينيس " القائد الحقيقي ليس من يمتلك كل الإجابات، بل هو من يستطيع جمع الأشخاص المناسبين معاً للعثور على أفضل الإجابات، فالنجاح الجماعي هو الذكاء الجديد.
وختاماً: يجب على كل قائدٍ ومدير أن يستلهم من هذه القصة دروساً عملية في إدارة الذات والفرق، وأن يدرك أن النجاح ليس سباقاً عابراً، بل رحلة متواصلة من التعلم والتكيف والتعاون، وكما قيل ”النجاح هو ليس نقطة الوصول، بل استمرارية السعي“.
فابحث عن السلحفاة في انضباطك، وعن الأرنب في حماسك واجمع بينهما في رؤيتك لتكتب قصة نجاح لا تتوقف عند خط النهاية، بل تمتدّ لتشكّل إرثاً من التميز والإبداع