مزاح أثقل من الوقار
قلتُ له:
كلما ازداد الإنسان عمرًا ازداد وقارًا واتزانًا، لا خفةً وطيشًا.
تذكرتُ ذلك وأنا أشهد مشهدًا أزعجني أيّما إزعاج. كان بطله رجلًا يُدعى محمود، تجاوز الستين من عمره. رجلٌ كان يفترض أن تكسوه الرزانة وتزيّنه الحكمة، فإذا به يبدّد هيبته بيديه ولسانه.
دخل مجلسًا عامرًا بالوجوه والأنفاس، وما إن جلس حتى راح يمطر الحاضرين بمزاحه الذي لا يعرف حدودًا. لا يسلم أحد من وخز كلماته ولا من حركاته الطائشة. يطلق النكات والطرائف، لكنها لم تكن سوى سهامٍ مسمومة، بذيئة الألفاظ، ثقيلة على الأسماع والقلوب.
وكأني تذكرتُ قول رسول الله : ”يا علي! لا تمزح فيذهب بهاؤك، ولا تكذب فيذهب نورك.“
التفت محمود فجأة إلى رجلٍ يُدعى عبد الله، وقال له بلا مقدمات:
— ”كيف حالك يا عبود؟“
اشتعل الغضب في وجه عبد الله، وانتفض صوته حادًا:
— ”احترم نفسك يا محمود! لستُ أصغر أولادك لتناديني بهذا الاسم.“
لكن محمود قابل الموقف بضحكاتٍ صاخبة، كأن شيئًا لم يكن، غير عابئ بمشاعر الآخرين ولا بوقار المجلس. وما هي إلا لحظات حتى تحوّل المكان إلى ساحة ملاسنات ومراشقات لفظية، بدل أن يكون مجلسًا للصفاء والأنس.
وفي خضم تلك الفوضى، ناوله أحدهم كوب شاي. تناوله محمود وهو ما يزال غارقًا في نشوة المزاح، فانسكب الشراب على ثياب صاحبه. ارتسمت الدهشة على وجه الرجل وهو يقول محتجًا:
— ”هل يرضيك هذا يا محمود؟ انظر ماذا فعلت!“
لكنّ الاعتذار الذي كان يُنتظر لم يأتِ، بل واصل محمود مزاحه وكأن الموقف لا يستحق لحظة ندم أو كلمة اعتذار.
شرارة الزعل
تدخّل أحد الحاضرين بلهجةٍ عاتبة، يحثّه على التوقف عن التهكّم، فإذا بالمزاح ينقلب مشادةً قاسية، ارتفعت معها الأصوات، وتحوّلت الضحكات إلى صمتٍ ثقيل.
هنالك خطرت ببالي كلمة الإمام علي :
”المزاح يورث الضغائن.“
عندها شعر محمود أنه قد تجاوز الحدّ، فغرق في لحظة صمتٍ مربكة، ثم نهض على عجل، وغادر المجلس تاركًا وراءه وجوهًا متحيرة وقلوبًا مثقلة.
خرج بخطواتٍ متسارعة، وفي قلبه غصّة مريرة. لم يكن يتوقع أن مزاحه، الذي اعتاد عليه، سيجرّه إلى هذا الانكسار. كان يتمتم في داخله:
— ”ألهذه الدرجة صار مزاحي ثقيلاً لا يطيقه أحد؟“
سار في الطريق يراجع مواقفه الماضية، يستعرض مجالسه وكلماته، ليكتشف أن المزاح الثقيل قد سرق منه وقاره، وأطفأ من حوله بريق الودّ والاحترام.
في الختام تذكروا أن:
الوقار لا يُشترى بالعمر، بل يُبنى بالتصرفات. واللسان إن لم يُحسن الإنسان ضبطه كان سيفًا على مكانته. فليكن المزاح خفيفًا كنسيمٍ عليل، لا ثقيلاً كصخرةٍ تسقط على القلوب. ومن أراد احترام الناس فليزرع بينهم الكلمة الطيبة والابتسامة الصافية، لا السخرية التي تجرح ولا الطيش الذي يهدم.