جدوائية المقال الومضة

مقال الومضة والمقال القصير جدًّا كلها تسميات تشير إلى أمر واحد؛ وهو النص القصير جدًّا الذي يعبر عن فكرة ما بإيجاز وتكثيف فائقين «من ثلاثة أسطر إلى سبعة» متماهيًا مع العادات الجديدة للقراءة ومتطلبات العصر في الحصول على المعلومة بأسرع وقت. ولذلك فإنها أيضًا تمنح القارئ تجربة قرائية جديدة تتميز بالسرعة جنبًا إلى جنب مع التكثيف.

هي نفس ما قاله العرب عن البلاغة التي تصرح بأنها الإيجاز، وأنها «تجويع اللفظ وإشباع المعنى»، وقريبة من قول الشاعر أبي العتاهية:

وخير الكلام قليل الحروف***كثير القطوف بليغ الأثر

وقول النفري الصوفي: كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة.

كما أن هذا النوع من الكتابة يتميز بما يسمى الضربة الإدهاشية، جنبًا إلى جنب مع وحدة الموضوع وترابط المفاهيم. وقد تحتاج هذه المقالات من القارئ إلى بعض الجهد لفك شيفراتها وكشف دلالاتها، وربما توصل إلى نتائج ومفاهيم لبعضها لم يكتشفها أحد غيره، وربما حتى لم يقصدها الكاتب مع صحتها.

لكن هناك من ينظر إلى هذه الكتابة «التي تشبه القصص القصيرة جدًّا» على أنها تعكس قِصَرَ نَفَس كاتبها وربما اعتقد البعض أنها تسطيح للفكر أو أنها دلالة على ضحالة فكرية يعجز معها الكاتب عن الاسترسال في الكتابة متوقفًا عند سطور محدودة، على أن الحال خلاف ذلك؛ فالمقال الومضة يتطلب الصياغة الدقيقة الخالية من أي حشو أو زيادة مع اكتمال في المعنى وعدم إخلال به. وحين يتقن الكاتب مقاله من هذا النوع حول فكرة ما فإن تأثيره يصبح أكبر وأكثر عمقًا من المقال الطويل، لكونه يعالج جانبًا واحدًا فحسب من أي موضوع، وإذا احتاج إلى معالجة جوانب أخرى فإنه يخصص لذلك مقالات أخرى.

وربما اعتقد البعض أنه موضة قصيرة العمر لا تلبث أن تغيب أو تندثر، رغم أنه فن إبداعي مهم يشق طريقه حاليًّا في أوساط متعددة، ويترك من التأثير ما قد يفوق أحيانًا أصناف الأدب الأخرى. وحتى إن صح هذا التوقع فإنها حاليًّا تؤدي غرضها المرجو منها بالوصول إلى شريحة مهمة من شرائح المجتمع، وهي الشريحة المستعجلة، أو الشباب الذين ربما لا يقرؤون غير هذا النوع من الأدب. إضافة إلى دورها في تغذية الذوق الأدبي العام وإشباع أحد جوانبه بإيجاز وإبداع مبهرين، خاصة في بعض المنصات التي يستحيل على المطولات من المقالات والبحوث الوصول إليها أو إشباعها، مثل وسائل التواصل الاجتماعي التي لا تتحمل إلا عددًا محدودًا من الحروف والكلمات.

يبقى أن نقول إن هذا النوع من الكتابة ليس بديلًا عن المقال المطول أو الكتب والبحوث والدراسات المعمقة، بل مكمل لها ويغطي شريحة مهمة لا تستهويها المطولات بل الكتابات الموجزة والمتسلحة بما يسميه البعض ب «الاقتصاد اللغوي».