الجمال المسجون
فتحت ســــارة باب الغرفة المغلقة , والتي لم تكن تعلـــم ما بداخلها لأنهُ كان محــرم عليها الصعود إلى الدور الثاني .
وببراءة الطفولة وعبثها , قادت أقدام سارة إلى الدور الثاني وتمتد يديها المرتجفة إلى مقبض الباب , وتصرخ بهستريا سبحان الخالق المبدع , ويعلو صوت سارة , ويصم كل الآذان الموجودة في المنزل , سارت سارة بخطوات متأرجحة , وأصوات غير مفهومة , وأستار الدموع المنهمرة حجبت الطريق على سارة لتسقط على الأرض جثة ً لا حراك فيها .
سمعت الأم المنهمكة في أعمال المسكن , المحلقة نحو المجهول بتفكيرها الفائض من الهم , وقلبها النازف من الحزن .
هرولت أم سارة نحو مصدر الصوت , وتفتح عينيها بعد أن كفكفت دموعها بكمها , رأت أبنتها ملاقاة على الأرض , حاولت أم سارة أعادة أبنتها إلى أرض الواقع , ولكن عقل وقلب ســـارة خــدرهُ الجمـال المسجون في الغرفة , والتي لم يكن أحد يستطيع أن يرى ذلك النور الرائع بعد الله سبحانه وتعالى إلا الأم والأب .
رفعت الأم يديها لتحمل أبنتها , وتنهار كل قواها , لم يتحمل قلبها الرقيق تحمل جراحات جديدة , ترفع بصرها إلى الخالق الودود , وتناجي العليم الخبير , وتمتد يد الزوج والأب العطوف ويمسح دمعتها , حمل الأب ابنته وضمها إلى صدره , وعلى السرير الأبيض وضع الأب ابنته .
سأل الطبيب عن سبب انهيار براءة الطفولة ؟
لم يكن للوالدين الإجابة المقنعة والشافية لطبيب .
فحص الطبيب جسم سارة الصغير , وجند كل علمه وخبراته العملية لفـك الشـفرات والرموز , ولم يحصل عقله العلمي المتطور على نتيجة تمسح دمعت الوالدين .
ضم الأب ابنته إلى صدره , وقبل مابين عينيها , وشخص ببصره إلى الوهاب , وبلسانه الإيماني طلب من الرحيم الرحمة لسارة , وألا يحرمه من هذه النعمة التي أتحفهُ بها .
نظر الزوج إلى زوجته , وقرأ تمزق قلبها , وشاهد صور أفكارها المتوهجة , وهمس الزوج في أذن زوجته , واستأذنا الطبيب في المغادرة لساعة , سارت أم سارة بجسدها وقلبها أودعته ابنتها ليحرسها ويرعها , بعد أن أعادت قلبها من المسكن لأنه كان يحرس الجمال المسجون في الغرفة .
وبهدوء الأب همس بكلماته , وتحاور مع أم سارة في غرفة المعيشة , عن الأحداث والسبب الذي أدى إلى فقد الوعي عند سارة .
اختفت جميع ملامح أم سارة وذاب قلبها , وتمزق جسدها , لم يقبل عقلها أحزان ولا آهات تضاف إلى جراحاتها .
قالت أم سارة : قل أي شيء عن ابنتي سارة , ولا تقل طفئت شمعة حياتها .
صرخت جراحات أم سارة يكفي جميلة وما بها , أنفاسها بين الأحياء جسد حي وروح مقبورة .
أدرك والد سارة بنفسه المهمومة وقلبه المجروح , بأنه مازال يتمتع بجسده القوي الصامت أمام عواصف البلاء , رغم تآكل جسده من الداخل , وعليه أن يستمر في هذا التماسك حتى لا تتمزق أسرته الصغيرة .
أحتوى الزوج زوجته , وأطلق العنان لقلبه المحزون ونفسه المهمومة تتناقش مع قلب أم سارة المحطم لما حدث لابنتها جميلة وما يحدث الآن لابنتها سارة .
قال الأب : تجملي بالصبر وتزودي بالتقوة وتزيني بالحلم , فهذه إرادة الخالق لا إرادة المخلوق .
قاطعت أم سارة زوجها وقالت : يعتصر قلبي وتتقطع كبدي وتتكسر أضلاع صدري كلما نظرت عيني إلى جميلة , وتزايدت عليَّ المحن وتكسر رياح الأحزان بقية عقلي في فلذة كبدي نوري الذي أبصر به إلى الحياة ابنتي سارة .
قال الزوج الحنون : ماحدث لسارة شدة وأن شاء الله تزول , وتقوي من عقيدتنا , أما جميلة ......
وانهارت الأم عند ذكر اسم جميلة , أحست كأن أركان الغرفة تنطبق على أنفاسها لتخمدها إلى الأبد .
وحضور أحساس الأب المدرك لكل مايدور حوله أسند أم سارة إلى صدره قبل أن تقع على الأرض .
تاهت أم سارة في أفكارها , وبعثرت خواطرها , وتذكرت أيام جميلة وكل ماجرى لها .
وكيف امتدت يد الحقد والحسد ؟
وكيف كانت فراشة تحلق من زهرة إلى زهرة ؟
وكيف تنثر رحيق الأزهار في زوايا المسكن ؟
وكيف تبعثر لمساتها الإبداعية في كل حائط ؟
تنهدت أم سارة ولمعت دموعها , وصرخت جميلة ... جميلة ...
أين أنتِ ياجميلة ؟
ياجميلة الخَلق والخُلق ؟
يا من تجلى فيها جمال الخالق في محياها ؟
أجابتها أحزانها وساعدتها آهاتها وسجلتها دموعها على أخاديدها تحلل قلبها .
جميلة أشرقت لها الدنيا بنورها سبحان الخالق الوهاب .
ولكن وتنهدت آهات ..
ولكن الحقد والحسد , والغل المتغلغل في النفوس الضعيفة , حولها إلى ذئاب بشرية , نهشت الجمال , وكسرت الروح الشفافة التي تمتعت بها جميلة , وأفقدت جميلة عقلها المشرق .
تبسم الأب في وجه زوجته , ويرسم البسمة على محياه , ويخفي أنين قلبه بين ضلوعه .
و كانت دموعه تحرق قلبه , وأحزانه تقطع أوردته , ونفصل الأب عن العالم , وقرأ سطور ابنته جميلة .
جمال الخالق المتجلي في ابنته , وعبث يد الشيطان , وذئاب البشر المستعرة قلوبها بالحقد والحسد , شوه الجمال , وهشم الملاك الصغير الطاهر , لتحتفظ باسمها بين الأحياء , وتدفن كل المعاني وصورها الجميلة بين عقلها المسكوب بأيدي الذئاب البشرية .
رفع الأب بصره إلى المعبود وناجى ربه العليم , يارب لم أترك باب إلا وطرقته , ولم أجد طريق فيه نور من الأمل لابنتي جميلة إلا وسلكته , وأن حُف بالصعاب والعثرات , وتنهدا وفاضت عيناهُ بالدموع ولهج لسانه بذكر الله سبحانه وتعالى ونادى يارب ... يارب ... يارب ...
وعلا صوت الهاتف ليقطع عليه لذة المناجاة مع خالقه .
وبشوق ولهفة ممزوجة بحزن قال : نعم أنا والدُ سارة .
قال الطرف الآخر: أنا طبيب سارة .
قال الأب : ماذا تقول ابنتي سارة .
سقطت سماعة الهاتف على الأرض كما سقط والدُ سارة .
أما والدة سارة نظرت إلى زوجها ممدد على الأرض , لتصمت كل حواسها