حتى لا تكون مؤسساتنا الحقوقية مكاتب بريد
ستغدو الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان وهيئة حقوق الإنسان صاحبتا إختصاصات شكلية وعامة متى اقتصر عملهما الحقوقي على إبداء الرأي والمشورة وتقديم المقترحات والتوصيات وتلقي الشكاوى وإحالتها إلى جهات الإختصاص والتنسيق مع مؤسسات الدولة المعنية بحقوق الإنسان، إلى جانب عقد المؤتمرات والندوات وإصدار النشرات والتقارير عن أوضاع حقوق الإنسان على المستوى الحكومي والأهلي. فمثل هذه الانشطة نجدها قائمة لدى بعض المؤسسات الحكومية وغير الحكومية مما لا يدع مجالا للتميز في دور المؤسستان آنفتا الذكر. والتساؤل الذي يفرض نفسه هنا هو إلى متى سيتم النشر والتوعية بثقافة حقوق الإنسان كما ظهرت ضمن بيئتها الثقافية من خلال إحداث نوع من القبول والتبسيط الشعبي الجماهيري لها لتصبح جزءا متناغما مع النسيج الثقافي والإجتماعي العام؟ وإلى متى ستكون هذه الثقافة حصرية على بعض النخب أو بعض الفئات المستهدفة؟ ولماذا يحرم عامة الشعب من الوعي بثقافة حقوق الإنسان؟ وإلى متى ستنهض مؤسساتنا الحقوقية بدورها الفعلي والعملي تجاه التصدي لقضايا المجتمع ومعالجة مشاكله، فأين يكمن الخلل؟ ومن المسؤول؟. ثمة حاجة هنا للتفكير مجددا في اخراج الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان وهيئة حقوق الإنسان عن دائرة الاغراق في الانشطة تلوالانشطة الروتينية والشكلية.
لا شك أن نشر ثقافة حقوق الإنسان هي حق من حقوق الإنسان. فمتى ما ثقفها الفرد والمجتمع لن يتوانى لحظة عن المطالبة بحقه والسعي لتحقيق مطالبه، لكن للأسف فالوعي بالثقافة الحقوقية لازال ضعيفا جدا حتى على صعيد العاملين في المؤسسات الحقوقية نفسها. إن نسبة الوعي بحقوق الإنسان الأساسية في إجمالي المجتمع السعودي لم تتعدى 30% بعد، الأمر الذي يتطلب وضع خطة عمل وطنيية شاملة لتعزيز وتنمية حقوق الإنسان وإقتراح وسائل تحقيق هذه الخطة. إن مجتمعنا بحاجة الى بذل الجهد من أجل تجذير مفهوم حقوق الأنسان في ذهنية المجتمع بسياقاته الثقافية والدينية ومعتقداته الجماعية والإستعانة بالمؤسسات والأجهزة المختصة بشؤون التعليم والتنشئة والمؤسسات المدنية والتثقيفية وإلى جهود مجتمعة من المتخصصين والمحامين والناشطين المهتمين بهذا الشأن.
لا مناص إن شئنا العمل على تعزيز أوضاع حقوق الانسان في بلدنا من اإلتزام مؤسساتنا الحقوقية هذه دورها الإصلاحي الفعلي والنأي عن إعتبار نفسها مجرد مكاتب بريد تتلقى الشكاوى لتمررها لذوي الشأن. من هنا لابد لهذه المؤسسات من إعادة الاضطلاع على المرجعية الفكرية لمبادئ حقوق الإنسان الواردة في النظام الأساسي للحكم والمواثيق العالمية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والذي يمثل الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين الملحقين به، والقيم المستمدة من الأديان السماوية، والالتزامات النابعة عن إنضمام المملكة العربية السعودية إلى المواثيق الدولية والإتفاقات الإقليمية العربية والإسلامية كشرعية لمبادئ حقوق الإنسان. عدى عن ذلك ستبقى مؤسساتنا الحقوقية خارج سياق الإصلاح السياسي والحقوقي ومن ثم ستظل تراوح مكانها على هامش المصلحة الوطنية العليا.
إن أولى الأدوار المتوقعة من هذه المؤسسات المساهمة في وضع الحلول وإمتلاك وسائل الضغط الكافية واللازمة لإحداث التغيير المطلوب سيما إزاء الأجهزة والإدارات الحكومية التي لا تلتزم حرفيا بتطبيق ماورد من نصوص في النظام الأساسي للحكم على مستوى تنظيم العلاقات والتعاملات بين الناس. فمن الجميل وجود القوانين والتشريعات الوضعية بالنسبة للوائح والأنظمة، ولكن العبرة ليست في عظمة النصوص في أي قانون، وإنما بجدية التطبيق وأمانة الإحترام لروح النص ومعناه، وبالتالي لابد أن تثبّت ذلك عمليا أي أن تقول ما تفعل وتفعل ماتقول ف" كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون ".
ليس هناك شك بأن مسؤولية التغيير والإصلاح مسؤولية مشتركة تقع على عاتق الجميع بدأ بالقرار السياسي الجاد ومؤسسات الدولة مرورا بمختلف القوى والتيارات السياسية والنخب الثقافية وإنتهاءا بشرائح المجتمع الواعية المتطلعة للتغيير في التعاطي بإيجابية نحو ما تسعى إليه من مطالب. وإنطلاقا من أهمية العلم بالثقافة الحقوقية ومعرفة مرتكزاتها ونشر ثقافتها التي تساهم بشكل كبير في عملية التغيير فهي مسؤولية " كل في موقعه يعمل " وعبر عدة جهات ويتمثل ذلك في مايلي:
1 - دور المؤسسات الحقوقية في العمل على تحفيز الوزارات والمؤسسات على إحترام حقوق الإنسان والعمل على تعزيزها في نطاق إختصاص كل منها، وبالذات إعتماد الحوار الجاد والقرار الملزم مع وزارة الداخلية ووزارة العدل بإيضاح بعض الجوانب السلبية التي أحاطت ببعض الممارسات المتعلقة بإنتهاكات الحقوق والحريات لاسيما قضية الإعتقال التعسفي والسجناء السياسيين، والقضاء على كل أشكال التعذيب والمعاملة المهينة والقاسية، وإلغاء كافة العقوبات السالبة للحريات ومنها حرية الرأي والتعبير، وحظر السفر وحرية التنقل بحق العديد من المواطنين دون أحكام قضائية مسبقة، وقضية التمييز الطائفي الممنهج ضد البعض من أطياف الوطن، والممارسات الإقصائية التي تصدر من بعض الأجهزة وإصدار فتاوى التكفير والتخوين والإعتداءات الجسدية ضد المثقفين والنشطاء والمبدعين والتي تخلّ بقيم وحقوق المواطنة والعدالة والمساواة وتتناقض في محتواها مع المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، وذلك لتحقيق تجاوبا أكثر وأوسع من هذه الوزارات والأجهزة التابعة لها مما يعزز ثقة المواطنين وإحترامهم للأنظمة، وأني لأرى أن في التعامل باذدواجية في تطبيق أحكام القانون المحلي والدولي الإنساني فيما يمس قضية حقوق الإنسان ليس في مصلحة الوطن ويمثل إنتكاسة لحقوق الانسان، خاصة للذين يقفون أمام حركة أي تغيير أو تطوير وفيما يرتبط في مناهضة التمييز العنصري والطائفي الذي يتعارض مع التعددية والتنوع الثقافي وقبول الآخر، لذلك حرصا على الوحدة الوطنية الذي ينشدها غالبية الشعب السعودي أشد على يد لجنة حقوق الإنسان في مجلس الشورى أن تدعو لتبني قرار أو وثيقة وطنية شاملة وقائمة على أساس المواطنة لمعالجة هذه القضية، ولأجل إقامة التوازن المفقود بين ممارسة حرية الرأي والتعبير من ناحية وبين إحترام المقدسات والرموز الدينية لكافة الأطياف والتيارات من ناحية أخرى، فالتأجيج الطائفي والمذهبي خطرا يهدد أمن وإستقرار البلاد، والتنوع الثقافي حق أساسي من حقوق المجتمعات وحق من حقوق الشعوب على نحو ما أقرته الإتفاقيات الدولية الصادرة عن منظمة اليونسكو مؤخرا في عام 2005 م.
2 - إننا عندما ننظر إلى مهام هذه المؤسسات نرى أنها تعمل على تعزيز وتنمية حماية حقوق الإنسان وترسيخ قيمها، ونشر الوعي بحقوق الإنسان والحرياته الأساسية وحمايتها بعيدا عما يزخر به الواقع من تناقضات قد لا تتطابق مع هذه الحقوق والحريات والقيم المتضمنة في المواثيق الدولية، لذلك فإننا نحتاج الى تطوير في مؤسساتنا المعنية عبر تشكيل لجان متابعة وإشراف على إنفاذ الإتفاقيات الدولية وتطبيقها، والنظر في مدى موائمتها مع التشريعات والأنظمة المحلية التي هي بحاجة ماسة لمواكبة العصر وحاجياته. بالإضافة إلى جدية الإهتمام في الدفع تجاه المصادقة على بقية الإتفاقيات والمعاهدات الدولية مثل العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية عام 1966 م والعهد الدولي للحقوق الإقتصادية والإجتماعية والبرتوكولات التابعة لها، وإتفاقية حماية حقوق المعوقين والإعلانات الخاصة بها، والإتفاقيات الخاصة بالحماية الجنائية لحقوق الإنسان وغيرها.
3 - العمل على تعزيز حقوق المرأة ودعم مشاركتها السياسية وتأهيلها وإصدار تشريع بتخصيص مقاعد لها في المجالس البلدية والمحلية وضمان مشاركتها في الإنتخابات، والعمل على تعديل بعض التشريعات التي تتضمن تمييزا ضدها، خاصة إصدار تشريع خاص بالأحوال الشخصية يليق بمكانة المرأة وموقعيتها في المجتمع السعودي، وتشريعات تضمن حقوق جميع أفراد الأسرة في إطار مبادئ الشريعة الإسلامية.
هذا بالإضافة إلى النظر بعين الجدية لواقع المرأة السعودية وماتعيشه من إنتهاكات يندى لها الجبين على مستوى حقوقها الأساسية، لاسيما حقها كمواطنة في أن تعيش الحياة الكريمة فهي لاتقل شأنا عن مثيلاتها من النساء في المجتمعات العربية والخليجية اللاتي حصلن على حقوقهن في مجالات مختلفة.
وفي مقابل تجاهل الكثير من القضايا التي يمر بها المجتمع أو إنكارها من قبل الجهات المسوؤلة فإن ذلك لا ينفي دور المؤسسات الحقوقية في إعلان موقفها مما يجري من أحداث، بالذات إذا لامس ذلك إنتهاكات واضحة وصريحة بحق المرأة، فالجمعية الوطنية لحقوق الإنسان سبق وإن أعلنت موقفها من الأعمال الإرهابية وكيفية معالجتها، وأصدرت بيانا يوضح تقصير الأجهزة الحكومية الذي ذاد من الأضرار وطالب الأجهزة بتحمل مسؤوليتها تجاه المواطنين في كارثة السيول، وأصدرت بيانا تعلن فيه إستيائها من منع رئيس المحكمة الكبرى في الرياض لمنعه ممثلي الجمعية حضور جلسة النطق بالأحكام، فلماذا تتجاهل دورها في إصدار بيانات بشأن ما تتعرض له للمرأة السعودية من ظلم وإنتهاك صارخ لحقوقها؟ فالبطالة المتفشية نسبتها عالية بين النساء فهناك مايقارب 60 ألف إمرأة إن لم يكن أكثر يحملن مؤهلات عالية ويحلمن بفرصة عمل، وفتاوى الموروثات الإجتماعية المخالفة للأنظمة المحلية والقوانين الشرعية والطبيعية التي لا يرتضيها عاقل بمنع حق المرأة العمل في المحلات التجارية وغيرها والتي تصدر بين آونة وأخرى تحرم المرأة من ممارسة دورها وتعطل مسيرتها في عملية البناء والتنمية، مما يعني ذلك تعطيلا لنصف المجتمع، وقضايا التفريق بين الزوجين لعدم تكافؤ النسب لازالت التشريعات فيها معلقة، والقوانين الغير منصفة في قضايا الأحوال الشخصية، من المسؤول عن كل ذلك ومن هو المستفيد؟ وأين هي إدانات مؤسساتنا الحقوقية تجاه مايحدث؟ أليست هذه القضايا من أبرز المهام يجب أن تكون في سلّم الأولويات وتستحق الإدانة؟ فالمرأة السعودية مصدر فخر بما حققته من إنجازات لاكن يحق لنا أن نتألق بها فخرا عندما تعيش على أرض الواقع وهي تتمتع بكافة حقوقها.
4 - دور المؤسسات الحقوقية في دعم إقرار حق الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني المهتمة بحقوق الإنسان ودفعها في أداء وتفعيل دورها بحرية وإستقلالية، فهي مؤسسات قوية تضاف إلى مؤسسات الدولة وتعمل بشراكة معها من أجل تحقيق التنمية البشرية المستدامة، وتمكين النساء والشباب من المشاركة الفعلية في عملية التنمية وخدمة الوطن.
5 - ضروة العمل على إدخال مادة حقوق الإنسان ضمن المناهج الدراسية، وذلك بأن يكون هناك إلتزام واضح وصريح من جانب وزارة التعليم بإدخال ثقافة حقوق الإنسان وفقا لمفهومها العالمي وتطوير المناهج العلمية بما يتوافق مع قيم الإعتدال والتسامح ونشر قيم وثقافة الحوار بمراحل التعليم المختلفة بدأ بمرحلة التعليم الأساسي وإنتهاءا بمرحلة التعليم العالي، وإعداد الكوادر العلمية والتعليمية المؤهلة لذلك.
6 - تجديد الخطاب الديني وفق قيم ومبادئ حقوق الإنسان، ونشر ثقافة حقوق الإنسان من خلال تدريب علماء ووعاظ المنابر والمساجد والحسينيات حول الأديان وحقوق الإنسان بما يحقق مقاصد الشريعة ومبادئ حقوق الإنسان.
7 - الإعلام ودوره الكبير في نشر ثقافة حقوق الإنسان، فالإعلام يعتبر من أهم مصادر التأثير في الرأي العام، وله دور كبير في تحديد توجهات المواطنين وتشكيل سلوكياتهم، فكلما تحرر الإعلام كلما كان قادرا على تأكيد وممارسة دوره بشكل إيجابي تجاه قضايا حقوق الإنسان وتجاه تعريف الناس بحقوقهم وفي التزامهم بحقوق الآخرين، وتعزيز قيم الإحترام والتسامح والتنوع الفكري والثقافي، وذلك من خلال البرامج العامة والتحقيقات المصورة، وإنتاج الأفلام القصيرة والمصورة من الواقع، وإنتاج الأفلام الكرتونية للصغار، وعبر المسرح والسينما والدراما والإبداع الثقافي والفني والإلكتروني والأدبي لتيسير نشر المفاهيم الثقافية لحقوق النسان بين كافة أفراد المجتمع.
أخيرا: مؤسساتنا الحقوقية بحاجة الى مضاعفة عملها وجهودها ورسالتها في تعزيز ونشر الثقافة الحقوقية لدى مجتمعاتنا أكثر مما هي عليه حتى في الدول المتقدمة التي تسجل أحوالها رقيا في التعامل مع الإنسان التابع لها واحترام حقوقه بصفة عامة، لا أن تكون هذه المؤسسات مجرد مكاتب بريد توظف سعاة لاستلام وتسليم الشكاوى لا أكثر!!.