كتاب يملأ فراغاً إسلامياً
(التدبر الموضوعي في القرآن الكريم، قراءة في المنهجين: التجميعي والكشفي)، كتاب قيّم يحاول ملأ فراغ شاغر في المكتبة الإسلامية بحقلها القرآني، تتلمس فيه اطلاعاً وافراً وإحاطة واسعة، سُبكت بأسلوب سهل ممتنع، ولغة علمية رصينة، ومنهجية فنية رشيقة، معالجاً مسألة التدبر الموضوعي عموماً، وكيفيتها تحديداً، عبر فهم تحليلي رصين.
الكتاب من تأليف الباحث الإسلامي سماحة الشيخ علي آل موسى، ويقع في 750 صفحة من القطع الكبير، وصدر في طبعته الأولى 1430هـ/ 2009م عن دار كميل (بيروت/ لبنان)، متضمناً لخمسة فصول.
جاء الفصل الأول بمثابة مقدمات تمهيدية عامة للولوج للتدبر الموضوعي، حيث بُيّن فيه الفرق بين التدبر والتفسير، وعُرضت التأكيدات الشرعية والعقلية لضرورة التدبر، ثمّ أوضح الكتاب عبر مسح علمي كيف فُهِم القرآن الكريم، إذ قد فُهم تارة بشكل تجريدي قشري، وأخرى بفهم حكوي تاريخي، وثالثة بفهم مصلحي استغلالي، وأخيراً بفهم أجود وهو الطرح الحيوي الواقعي النشط، موضحاً هيكلة كلّ فهم، وضارباً الأمثلة على كلّ صعيد.
أتبع ذلك بدراسة استكشافية تحليلية لأبرز مناهج التفسير القرآني، ذاكراً تسعة أصناف، بدءاً من التفاسير النقلية والكلامية والفلسفية والعرفانية والفقهية، وانتهاء إلى التفاسير اللغوية والعلمية والتاريخية والاجتماعية، مسهباً في كلّ نوع، مبيناً أهمّ ملامحه، وأبرز روّاده ونماذجه.
وينتهي الفصل الأول بذكر أنواع التفسير القرآني الخمسة: (تفسير مفردات القرآن، التفسير الموضعي، التفسير الموضوعي [محلّ الدراسة]، التفسير الارتباطي، التفسير الكوني).
وجاء الفصل الثاني ليسلط الضوء على منهجي التدبر الموضعي والموضوعي، مستقصياً الجذر التاريخي الذي ظهر منه كلّ فرع، ومجلياً أوجه الاختلاف بينهما، ومفسّرا لماذا شاع أحدهما [الموضعي] على حساب الآخر [الموضوعي]، ومتناولاً الآثار السلبية لهذه الإثرة.
ومنها انطلق الكتاب لبيان التأصيل الشرعي للتدبر الموضوعي، ذاكراً استدلالاته ومميزاته ومنطلقاته، ومعللاً بذلك سبب السير في هذا الدرب الجديد/ القديم. وليفصِّل في الأخير المشكلات التي تواجه الباحث الموضوعي.
ثمّ أفردت الدراسة زاوية ذُكر فيها قسما التدبر الموضوعي: التجميعي والكشفي، حيث أوضِح أنّ الأول (التجميعي) يهتم بالتقاط الموضوع ضمن كافة نطاق القرآن الكريم، بينما الآخر (الكشفي) يتناول لوحة قرآنية معيّنة (آية، مقطع، سورة)، ويحاول عبرها استكشاف موضوع ما.. يتضمن تلك المنطقة المحددة.
وتأتي بعد ذلك مجالات التدبر الموضوعي السبعة، والتي يستطيع الدارس أن يجري فكرته في إحدى أقسامها، وهي: (الموضوع، المفردة، الأداة، الأسلوب، السورة، الموضوع في سورة، المقالة التفسيرية).
أما نقطة الارتكاز فتتمثل في الفصلين الثالث والرابع، ولعلّهما يمثلان الصلب والقطب الذي يدور حوله البحث، وقد خُصِّص الفصل الثالث لمنهجية التدبر الموضوعي التجميعي، والذي يرى الكتاب بأنّها تمرّ عبر سبع خطوات:
1- البحث عن المصطلح.
2- جمع الآيات.
3- فرز الآيات وترتيبها.
4- الاستفادة من الروايات.
5- الاستفادة من التفاسير.
6- التطبيق الخارجي.
7- استنباط الرؤية المتكاملة.
وقد أسهب في شرح كلّ نقطة، وبيّن خطوطها وخصوصياتها، وزوّد القارئ بتطبيقات كثيفة لفهم أبعادها، وكيفية ممارستها، مما يعطي الكتاب مسحة واقعية، وبُعداً دراسياً جذاباً.
وبشكل مواز تعرّض في فصله الرابع للقسم الآخر من التدبر الموضوعي ألا وهو (الكشفي) أو ما يُعرف بـ (التدبر الموضعي الموضوعي)، وقد خصّه بست خطوات، وهي:
1- الاستفادة من ممهدات النصّ [اسم السورة، فضلها، خصائصها، سبب نزولها،..].
2- تحديد هدف السورة.
3- اكتشاف محور السورة.
4- تقسيم السورة إلى مقاطع.
5- اكتشاف الوحدة العضوية.
6- دراسة السورة كموضوع.
وبطبيعة الحال فقد أخذ كلّ خطوة بشكل عميق، وأسهب التفصيل في مبانيها، وفوائدها، وما إلى هنالك.
ثمّ أسدل الستار على الكتاب بفصل خامس وأخير حول التطبيقات لمجالات التدبر السبعة، وقد أفرد نموذجاً تطبيقياً لكلّ فرع على حدة.
1- الانفتاح المعرفي قرآنياً:
حيث لم يقتصر البحث على طيف واحد من النتاج الفكري الإسلامي، وإنّما حاول الاستفادة من مختلف المشارب التي طرقت المجال القرآني، لتؤسس فصوله على أساس من (الانفتاح الفكري)، فنجد في نثار الكتاب آراء لمسلمين ومستشرقين وغربيين وغيرهم، كما نجد بين طياته آراء سنية وشيعية، بل وفي الدائرة الواحدة نجد مختلف الانتماءات: صوفية، أو سياسية، أو أدبية،...
وكذلك أسس الكتاب على أرضية (الانفتاح التاريخي) للقراءات القرآنية، فتلحظ آراء شخوص في عصر النصّ، ومنها إلى العصور المسترسلة، وصولاً إلى أيامنا الحالية.
ومن ناحية أخرى نجده اعتمد على (الانفتاح الجغرافي) أيضاً ليحلق بجناحي الرؤى القرآنية، سواء أكانت في المشرق العربي أم في مغربه، بل ويتعداه للدراسات الفارسية، وهي نقطة موفقة تحسب لصالح المؤلف.
2- البدء من حيث انتهى الآخرون:
فانفتاح الكتاب السابق لم يكن لمجرد الانفتاح، أو لاستجلاء المقدرة على جمع المنشور، بل حاول أن يتسلق من جذوع الإطلاع، إلى متون الاستيعاب، وحتى غصون التقييم، ومن ثمّ يشيّد بنيته الفكرية الخاصة في التناول القرآني، فتجده ينطلق تارة مما انتهى له السيّد الشهيد محمد باقر الصدر في مدرسته القرآنية، وتارة ثانية مما انتهى إليه الشهيد محمد باقر الحكيم في (علوم القرآن)، وثالثة تلحظ اتكاءه على دراسة الكاتب الجزائري الدكتور أحمد رحماني في كتابه (التفسير الموضوعي: نظرياً وتطبيقياً) كمثال آخر، ورابعة على دراسة الكاتب السعودي الدكتور زيد عمر العيص في كتابه (التفسير الموضوعي: التأصيل والتمثيل).
وهكذا يجهد أن يبلور رؤيته عبر بناء أركان جديدة يطرحها فوق الأرضية التي مهّدها المفكرون السابقون، محاولاً أن يحرث أطروحاتهم، ويغرس فيما صلح منها منهجيته القشيبة، حتى لا يكون كتابه مجرد نسخة مكررة بألفاظ حديثة.
3- غير القرآني في خدمة القرآن:
لم يقتصر الشيخ الموسى على الدراسات القرآنية الصرفة، وإنّما حاول أن يستفيد مما وصلت له يداه من علوم قديمة وحديثة، فالموسى – خريج الحوزة الدينية، والحاصل على ماجستير في النقد الأدبي الحديث – يستثمر علم (المنطق) و(الفلسفة)؛ لدعم الفكرة القرآنية، والاستفادة من (المنهج) المتبع في هذين الحقلين المعرفيين.
ومن طرف آخر يستخدم أحياناً بعض الأدوات الأدبية والبلاغية والنقدية في فهم النصوص سواء أعادت للمنجز القديم أو الحديث، فليس بغريب أن نلمح عبد القاهر الجرجاني يحوم في أروقة صفحات الكتاب، وأن نبصر أحمد الهاشمي في جواهر بلاغته يتجول بين السطور، أو نقتصّ آثار شوقي ضيف في بعض الزوايا، وليس بغريب أن تتمّ الاستفادة من معطيات (المنهج الرمزي والأسطوري)، واستقدام منهج (الكلمة المفتاح)، والاستفادة من نظرية (السياق).
وفي الجنبة النفسية كمثال آخر، نرى منجزات علم النفس البشري جلية في تحليل النصوص، فترد تحليلات الدكتور أحمد راجح في (أصول علم النفس).
ومن الجنبة النفسية إلى البحوث الاجتماعية، فلا عجب إن رأيت (غوستاف لوبون) في كتابه الموسوم بـ (السنن النفسية لتطور الأمم) قد أتخذ له ركنا!، و(مجتبى الموسوي اللاري) في كتابه (الإسلام والحضارة الغربية) قد اتخذ له ركناً آخر.
ناهيك عن الكتب التي تتقاطع والجنبة القرآنية، كالدراسات الأصولية والفقهية: القواعدية والمقاصدية، فيبرز المظفر في أصوله، ويظهر صاحب الجواهر النجفي في جواهره، وتطفو آراء الشاطبي في موافقاته، وغيرهما الكثير.
ومن الجدير ذكره هنا، أنّ هكذا استفادات من العلوم غير القرآنية بالدرجة الأولى، لم تبعد الكتاب في المجمل عن التأصيل الفكري لأطروحته، ولم تخرجه عن تركيزه القرآني.
4- المنهجية الدراسية الحديثة للكتاب:
إذ هُيِّئ الكتاب على شكل دروس وخطوات جاهزة للتدريس الأكاديمي القرآني، وموزعة على شكل نقاط مرقمة بوضوح (1- 2- 3)، (أ- ب - ج)، (أولاً، ثانياً، ثالثاً)، وإذا غاب هذا حلّ محله تعبيرات أخرى تشدّ البحث لمحور واحد مثل تعبير: (فمن ناحية..، ومن ناحية ثانية)، حتى في ثنايا سطور البحث والموضوع.
كما رُفدت الموضوعات بفقرات تحمل عنوان (إضاءة)، وهي نحو من العمل الإثرائي الذي يذلل للدارس شيئاً مما ورد في مادة الكتاب، أو يعطيه معلومات إضافية عنها.
كما نجد الأسلوب التعليمي واضحاً في الأشكال الهندسية الشجرية التي تلخص النقاط المسرودة ضمن سطور الكتاب؛ ليتمكن القارئ من استيضاح الخريطة التي يتبنّاها المؤلف بسهولة، ويتلمس العمود الفقري الذي يجمع فصول الكتاب وأجنحته بيُسر، بل ويختبر مدى إدراكه لما تمّ عرضه.
وإلى جانب ذلك رُفدت الموضوعات بسلسلة من الأسئلة أو التأملات التي يختتم بها كلّ موضوع، والتي استفادت من الطريقة التربوية الحديثة في عرض السؤال بصيغ يخاطب فيها المرء نفسه وكأنّه في حوار داخلي بعيد عن صرامة الشعور بوجود شخص خارجي أعلى يسأل، وأسفل يتلقى ويجيب؛ ليندمج الملقي والمتلقي في كائن واحد، وإمعاناً في هذا الأسلوب التربوي حلّ اسم (التأمل) محلّ (السؤال) بمناخه الفوقي.
5- عدم الاقتصار على النزعة التنظيرية التجريدية:
كثيراً ما يبني المفكرون رؤاهم على مسرح التنظير المجرد من الواقع، ليصوروا أفكارهم على أنّها مثالية الإتقان، هاربين بذلك من اختبارها على محك التطبيق، وتحت مباضع التشريح الفعلي، حيث لا يقومون بامتحان تصوراتهم، غير أنّ المؤلف حاول تفادي الأسلوب المجرد عبر سرد الكثير من الأمثلة التطبيقية، بل وإفراد الفصل الخامس بأسره للتطبيق الفعلي لكلّ المجالات السبعة التي ذكرها في التدبر الموضوعي، لتكون منهجيته أقرب لملامسة فهم القارئ، بل وأدنى للبرهنة على إمكانية التنفيذ العملي، حتى لا تبقى خطوات الكتاب مجرد غرس للبذور في الهواء.
إنّ المميزات الخمس السالفة لا تعني وصمنا الكتاب بالعصمة أو الكمال، أو خلوه من الملاحظات النقدية.
1- ولعلّ أبرز نقد يُصوّب للكتاب – شكلياً – هو: طول متنه؛ مما قد يسبّب الملل والرتابة للقارئ، وبالأخصّ إن كان غريباً عن الحقل القرآني، وربّما كان هذا من الدواعي التي دفعت الهيئة المقرِّرة للكتاب إلى إضافةَ (إضاءات) معرفية تحاول أن تذيب جليد الوحشة، وتطرح شيئاً من الأنس الثقافي، وتجسّر الهوة بين اختزالات النصّ والأمور المستدعاة والمحال عليها، والذي كان هو الآخر على حساب اختزال حجم الكتاب وإيجازه.
2- أما من حيث المضمون، فقد يرى البعض أنّ الكتاب في بعض جوانبه حاول أن يلتزم (الحياد الفكري) إزاء بعض الأفكار المعروضة للآخر المختلف والتي لا يتبناها الكاتب في منهجيته، وعدم تفنيدها بوضوح، وانتقادها بشكل خجول عبر عرض النقيض من قِبَل كتّابٍ آخرين، كما تمّ عرضه في مسائل الآيات التي توهم بتجسيم الله، بينما قد يرى آخرون بأنّه أسلوب تكتيكي في النقد يسعى لنقد الأفكار من خلال وضعها متجاورة يرى القارئ فيها مدى التباين، ويشهد فيها الاستدلال البنائي والنقضي معاً من خلال آخرين يُشركون في عملية الحِراك والإنتاج المعرفي، وفتح المجال للمتلقي للقيام بالمقارنة بين الرؤى والأدلة ومن ثمّ الاستنتاج، فيما يدخل ضمن مقولة (ميلاد القارئ) وإسهامه في الإنتاج المعرفي، ونقله من متلقي مستهلك إلى متلقي منتج.
3- ومضموناً أيضاً، لعلّ البعض يرى أنّ الكاتب - ورغم استفادته من العلوم الحديثة - إلا أنّه غضّ النظر عن بعض الأطروحات الجديدة الشائكة التي يركز عليها مجموعة من الكتّاب على شاكلة (نصر حامد أبو زيد) في دارسته حول علوم القرآن، أو في محاولته للبرهنة على تاريخية النصّ الديني، والتي يتنافر جزء منها مع ما تمّ سرده وبيانه حول الناسخ والمنسوخ، أو الخاصّ والعام، وما شاكل..، بل ولا تنسجم مع بعض أساليب الفهم القرآني، وبالتالي بديهي ألا نجدها قد أُدرجت ضمن خانة (كيف فُهم القرآن؟)، فهذا الفهم الحداثي الأحفوري المتمرد في مجازيته، والمتوثب على ما سبق إنتاجه، يغيب عن متن كتاب الموسى.
وكذا مجموعة من الجوانب التي ذكرها (عبد الكريم سروش) في كتابه (القبض والبسط في الشريعة) فيما يتقاطع مع الجنبة القرآنية، أو الرؤى المغالية التي يدفعها (علي حرب) في كتابه (هكذا أقرأ ما بعد التفكيك)، وذلك عند قراءته لأطروحة عبد الكريم سروش في الشأن القرآني.
4- بالإضافة إلى بُعد المسافة بين زمن التدوين وزمن النشر، فالكتاب - كما تذكر مقدمته - عبارة عن دروس أُلقيت في عام 1426هـ/ 2006م. بينما لم تبرز إلى العيان إلا في عام 1430هـ/ 2009م - كما يظهر من تاريخ طباعة الكتاب -، وبين الزمنين فجوة تصل إلى أربع سنوات أو ما يقاربها!!
5- يُشار أخيراً إلى أنّ هذا الكتاب يُعدّ الباكورة الأولى التي يصدرها (ملتقى سحر البيان الكتابي) بالقطيف، رغم تأسيسه في عام 1418هـ/ 1998م، ومع أنّه يحمل من بين أهدافه: (الاهتمام بالأدب والفكر والثقافة: إنتاجاً وتداولاً)، و(نشر الكتابات المتميّزة) - كما جاء في التعريف بالملتقى على صفحة الغلاف الخلفية -، أي أنّ باكورة إصداراته جاءت بعد اثني عشر عاماً من تأسيسه!!، ولعلّ هذا الكتاب يكون بداية الانطلاقة لإصدارات أخرى توازي هذا الطرح الخصب، لتملأ فراغات شاسعة في المكتبة الإسلامية ما زالت تنتظر الكُتب التي تشغر حيّزها.