كربلاء الحسين والفعل السياسي
استفهامات طبيعية تفرضها تحديات الواقع حول قدرة الخطاب الديني الدارج على طرح المضامين الدينية ذات المغزى السياسي من النص والتاريخ على حد سواء.
ولأن قدرة الوسط السياسي المحيط على تذويب وطمس الهوية الدينية لأفراده أصبحت اليوم من الواضحات، لذا لا ينبغي الاعتراض أو حتى التوقف عند حاجة المؤسسة الدينية إلى تطوير خطابها الديني السياسي ليدفع كل تهديدٍ يترصد بهويتها.
ومع أن المتغيرات السياسية العالمية والإقليمية تشهد تعاقباً وتسارعاً ينبأ عن تحولات قادمة على المستوى العالمي والإقليمي إلا أن بوصلة الخطاب الديني عموماً لا تزال لا تحاول الدنو والاقتراب من التحديات السياسية العالمية والإقليمية والمحلية، الأمر الذي يكشف عن أزمة حقيقية على مستوى الوعي لا ينبغي التنكر لها. وهذا وغيره يمثل حاجة حقيقية تضغط بقوة لصياغة خطاب ديني معاصر قادر على المواكبة والاستجابة لمتطلبات الواقع وما يعج به من متغيرات.
وكربلاء الحسين وإن كانت في نفسها حدثاً تاريخياً إلا أنها كانت ولا تزال تمثل رافداً حقيقياً، ليس للمحافظة على الهوية الشيعية وعياً وممارسةً فحسب، وإنما لإضافة فارق حقيقيٍ في معادلات الواقع. كل هذا يكون لو استثمرنا الأبعاد الرسالية والحركية في قيم النهضة الحسينية للدخول للواقع ومعالجة ما فيه من إشكاليات.
وكما أن الدين قد يتعرض للقراءات المبتورة والمجتزئة التي تجرده من قدرته على الفعل الثقافي والحركي والسياسي والحضاري، كذلك قد تتعرض كربلاء الحسين لقراءات مجتزئة غير قادرة على الوفاء بمتطلبات المعاصرة واستحقاقاتها المتنوعة.
وليس من شك أن القراءة لكربلاء الحسين حينما تكون مجتزئة أو غير ناضجة فإن هذا القصور يتداعى بشكل واضح على المنبر الحسيني، بل وعلى مجمل الإنتاج الثقافي المتعلق بكربلاء، مما يدفعنا لمراجعة بنيوية للمنتج الثقافي الذي يصنع في عاشوراء الحسين على وجه الخصوص، هذا للأهمية القصوى التي تمثلها هذه المدة الزمنية.
بالطبع إن استنباط الملامح السياسية لكربلاء والمتعلقة بالواقع هي بحاجة إلى تتبع واستقصاء. إلا أنه على نحو العجالة نقول:
في أنحاء العالم هنالك أقليات دينية ومذهبية وقومية تتعرض إلى الظلم والاستبداد, التمييز والتهميش، وهي قد تحجم عن المطالبة بحقوقها وتتردد في التعبير عن همومها باعتبارها أقلية في محيطها السياسي.
وبحسب الموازين المادية، الحركة الإصلاحية التي قادها الإمام الحسين كانت تمثل أقلية مقارنة بالحزب الأموي، إلا أنها جاءت لتفرض بعداً جديداً في معادلات الصراع، ألا وهو البعد الروحي الذي تجلى في صلابة الموقف وعنفوان الإرادة، ومن هنا لم يتردد عن إعلان موقفه السياسي، بل أعلنه بكل صراحة, وضوح: "ومثلي لا يبايع مثله". فنهضة الإمام الحسين جاءت لتعبر عن الفعل السياسي الممانع عند الأقليات حينما تتعرض هويتها إلى عمليات التمييز والتهميش، والطمس والتذويب.
ومن جهة أخرى، نهضة الإمام الحسين تعبر عن الأنموذج القيادي المتصدي للتحديات السياسية والاجتماعية التي تواجهها الأمة. كما أنها تعرَّض بالانزواء والسلبية التي كانت السمة الأبرز لعلماء الأمة في حينها.
ولعله من الإنصاف أن نقول أن الحاجة إلى الخطاب التربوي والاجتماعي بنمطه الكلاسيكي لا تزال قائمة وبشكل مُلح أيضاً، إلا أن الإنصاف أيضاً أن الواقع بتحدياته المحلية والإقليمية يتطلب قراءة حيوية متحركة تطل على كربلاء من جهة مخزونها القيمي المتدفق الذي يجري على الواقع كما يجري القرآن، وكما تجري رسالة الإسلام الخالدة.
إن الحراك والتموج الذي أحدثته نهضة الإمام الحسين على حالة السكون التي كانت تهيمن على المشهد السياسي الداخلي للأمة الإسلامية كانت أعظم مما تحدثه صخرة عظيمة تسقط على بركة مياه راكدة. ,هكذا هي قادرة على أن تصنع ذات الصنيع في واقعنا، لما فيها من حرارة وحيوية قابلة للامتداد زماناً ومكاناً، طولاً وعرضاً. ,من هنا فإن الخطاب المنبري ومجمل الإنتاج الثقافي لا بد أن يكون مرآة تعكس الروح الحسينية على واقعنا المعاصر.