الحسين وثيقة احتجاج على احتكار السلطة
لم تخسر الأمة الإسلامية ماضيها وحاضرها إلا بعد انحراف البوصلة وانهيار هويتها السياسية. ومن المؤسف أن هذا الانهيار إنما وقع ويقع بمعاول الداخل التي كانت ولا تزال تظهر الانتماء إلى الإسلام.
إن الهوية السياسية للأمة قوامها على ركيزتين اثنتين تمثلان حصن الأمة، وهما: الولاية لله؛ والتي تتأتى بها حاكمية الدين المطلقة على الحياة. والكفر بالطاغوت؛ والذي يمثل الاستقلال عن كل عوامل الضغط التي تحجب الأمة عن الدخول في الولاية الإلهية.
وولاية الله وولاية الطاغوت ضدان لا يجتمعان، فدخول الأمة في ولاية الطاغوت يعني خروجها المباشر من ولاية الله. وهكذا تكون ولاية الطاغوت أساس الفساد السياسي ونقطة انفصال الأمة عن هويتها السياسية.
إن قوام البناء العقائدي ذاته ما تتقوم به الهوية السياسية للأمة. فهذا الدين من خصائصه الأساسية أنه بناء واحد لا تنفصل وحداته عن بعضها البعض بحال، فهو نسيج واحد وحركة واحدة تشكل بمجموعها الهوية الرسالية والصبغة الإلهية التي ارتضاها الرب للأمة الإسلامية.
ويحق لنا اليوم أن نتساءل: كيف انفصلت الأمة الإسلامية عن هويتها السياسية؟ كل من يراجع التاريخ يدرك أن الانحدار المدمر والسقوط المخيف بدأ مع وصول الحزب الأموي للسلطة، فمنذ وصوله بدأ فعلياً بالتخطيط المباشر لتدمير الهوية السياسية للأمة، وتقطيع أوصالها وهدمها من القواعد، فعمل على خطين اثنين:
أولاً: احتكار السلطة وتوريثها، واستخدم الحزب الأموي لذلك كافة السبل والوسائل الشيطانية، والتي منها تكريس مفهوم الطاعة للحاكم الجائر بالترغيب والترهيب.
ثانياً: الاستهداف لولاية أئمة أهل البيت وكل خطوط الوعي والحركات الناهضة في الأمة التي يمكن أن تهدد الحزب الأموي.
وقد أفصح معاوية بن أبي سفيان عن هذا المخطط حينما قال قبيل وفاته لابنه يزيد: "يا بني، إني قد ذللت لك الرقاب الصعاب، ووطدت لك البلاد، وجعلت الملك وما فيه لك طعمة"[1] . وقد كانت ولاية يزيد على الأمة الإسلامية بلية وما أعظمها من بلية، حيث أن نهوض الأمم متوقف في المقام الأول على الزعيم السياسي وجدارته لأن يكون على رأس السلطة، ولا يكون الزعيم السياسي جديراً بموقعه إلا إذا اتصف بالعدل والكفاءة السياسية.
إن العدل هو أساس الحكم، وهو ما يمنع من ممارسة لغة القمع والبطش مع المعارضة وحركات الإصلاح، أما الكفاءة السياسية فهي التي تمكن السلطة من الوفاء بمتطلبات الحياة الاقتصادية والخدماتية وإدارة مصالح الناس المتنوعة، وبدونها تفقد الدولة قدرتها على التحديث السياسي والإداري والاقتصادي والخدمي.
ويبقى اتصاف السلطة السياسية بالعدل والكفاءة القيادية في آن واحد من الحالات النادرة في التاريخ وفي العصر الحديث. إلا أن ما يقلل المصيبة ويهون الخطب عند بعض الشعوب هو عدم خلو السلطة من كلا الأمرين. حيث أن العدل بمفرده يمكن أن يحقق شيئاً من تطلعات الناس، لأنه سيمنع السلطة من ممارسة التمييز وسيحافظ على المساواة وتكافئ الفرص أمام المكونات المختلفة للدولة. وهكذا الكفاءة السياسية بمفردها قد تحقق بعض الإنجازات وتفجر آفاق التنمية والتقدم العلمي والاقتصادي. لذا نجد أن الدولة الغربية لم تصبح في موقع القيادة للعالم إلا حينما انفتحت على كفاءاتها السياسية. في حين أن دول التخلف لم تتخلف إلا حينما غاب فيها الانفتاح على الكفاءات وفقدت سلطتها السياسية كلاً من العدل والكفاءة القيادية في آن.
ولأن يزيد بن معاوية كان أبعد ما يكون عن المؤهلات التي ينبغي أن تتوفر في الزعيم السياسي، لذا لا يمكن تصحيح مجيئه إلى السلطة بناءً على معيارية الكفاءة والجدارة، وإنما هو التوريث واحتكار السلطة الذي كان يمثل طموحاً كشفته بعض التسريبات والبرقيات السرية عن قادة الحزب الأموي.
ولأن الحزب الأموي كان يعلم أن الأمة لا تقبل يزيد زعيماً سياسياً جاثماً على مقدراتها هكذا طواعية، أراد أن يقفز على إرادة الأمة وعلى حقها في تقرير المصير، فخطط لمجموعة من الإجراءات القمعية من أجل إمرار مشروع التوريث على الأمة.
ولهذا حضر لسلسلةٍ من الاغتيالات لتصفية رجالات الأمة، تماماُ كما تقوم الأنظمة المستكبرة اليوم باغتيال كل من يهدد مصالحها، سواءً كان قامة من قامات العلم، أو قائداً عسكرياً في سوح المقاومة والجهاد. ولعله كان يدور في خلد السلطات الأموية، أنها ستتمكن بلغة القمع والبطش والإرهاب من تفتيت إرادة الأمة وإخماد الأصوات التي تطالب بالإصلاح والعدالة. ولكن المدافعة هي سنة الله التي تجري على المجتمعات والأمم، فدائماً ما يكون هنالك رجالٌ يعبرون عن ضمائر الأمم والشعوب، ويحملون أرواحهم على أكفهم من أجل تحرير شعوبهم من الحرمان والاستبداد.
في الواقع، كانت ولاية يزيد تمثل إذلالاً للأمة وانتهاكاً لكرامتها واستهتاراً صارخاً بمستقبلها، ولهذا انبرى الإمام الحسين ليعبر عن ضمير الأمة ووجدانها: " وعلى الإسلام السلام إذا ابتليت الأمة براعٍ مثل يزيد"، فالسلطة ليست ملكاً شخصياً للحزب الأموي: ولهذا أعلنها صريحة ومدوية: "إنا أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ويزيد رجل فاسق شارب للخمر قاتل للنفس المحترمة ومثلي لا يبايع مثله".
بلى؛ إن الإمام الحسين قد استشهد في كربلاء على يد جلاوزة الحزب الأموي، إلا أن انتهاك حرمة أهل بيت الوحي بقتله ومن معه من الأصحاب، وسبي بنات الرسالة، يمثل وثيقة تاريخية ضد أنظمة الجور عبر التاريخ، فالنظام السياسي الذي لا يتورع عن ارتكاب الجرائم والانتهاكات ضد كل صوت يطالبه بالإصلاح هو نظامٌ فاقدً للشرعية السياسية.
وهكذا كانت نهضة الإمام الحسين وثيقة تاريخية تعبر عن احتجاج الأمة على احتكار منافع السلطة وعلى توريث الملك. نعم سياسة التوريث للسلطة استمرت في مواطن كثيرة حينما استمرت حالة السبات عند الأمة.