الحسين (ع) مدرسة للقادة
قال تعالى: ﴿ واجعلنا للمُتقين إماماً ﴾
الفرقان: 74.قال الإمام الحسين : "فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحق، والحابس نفسه على ذات الله". الإمام الحسين سيد الشهداء، أعلام الهداية: 5/144
هل يحتاج الحسين إلينا؟ أم نحن بحاجة للحسين ؟
هل نحتاجه لأخرتنا أم نحتاجه لدنيانا؟ أم نحتاجه للحياتين معاً؟
فكما أن الحسين مدرسة للشهادة هو أيضاً مدرسة للحياة.
ومدرسة الحياة عند الإمام الحسين ذات منهج شامل لكل مسالك الحياة ودروبها.
ولكن سأركز، الآن وهنا، على زاوية واحدة من مدرسة الحسين ، لأهميتها، ولحاجة مجتمعاتنا الماسة إليها، ليومنا الحاضر وغدنا القادم، وهي مسألة "القيادة"، قيادة المجتمع وقيادة الأمة وقيادة الدولة عند الحسين .
لماذا القيادة؟
- لأنها مفتاح نجاح الأمم والمجتمعات. وكم من الأمم قد تغير حالها عندما برزت فيها قيادات مخلصة لها، مثل المهاتما غاندي محرر الهند والهنود من الاستعمار البريطاني. ومثل نيلسون مانديلا محرر دولة جنوب أفريقيا وشعبها من التمييز العنصري. ومثل الإمام الخميني محرر إيران وشعبها من الحكم الملكي البهلوي.
- ولأن الأمة بلا قيادة كالجسد بلا رأس، ولأن المجتمع بلا قيادة كالسفينة بلا ربان تتلاقفها الأمواج وتأخذها حيث تشاء.
- ولأن فساد القيادة يعني فساد المجتمع والأمة، وصلاحها يعني صلاح المجتمع والأمة.
لماذا الحسين ؟
أولاً: لأن الحسين أنموذج وحجة غير مكررة عبر الزمان السابق والحاضر في قيادته الدينية والسياسية والعسكرية.
ثانياً: لما للحسين من حضور وجداني يتملك النفوس والعقول في فكرنا الشيعي وعقيدتنا الشيعية. ألم يقل رسول الله : "حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحبّ حسيناً، حسين سبط من الأسباط". الإمام الحسين سيد الشهداء، أعلام الهداية: 5/54.
ثالثاً: لأنه قام بثورة فريدة من نوعها في كل تاريخ الأمة الإسلامية.
رابعاً: لأنه، من وجه أولي، أخر أهل الكساء الخمسة على الأرض «محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين»، ومن وجه أخر هو أبو التسعة الباقين من المعصومين الأربعة عشر ، وهو خلاصة جل ولب تجاربهم في الحرب والسلم، وفي التعايش والثورة، وفي الأتراح والأفراح، وفي التنظير والعمل، وفي العلم والأخلاق.
خامساً: لأنه يمثل قيمتين أساسيتين في القائد الحقيقي، الحكمة والعاطفة، العقل والعاطفة الإنسانية، العِبرة والعَبرة، والحسين هو القائد العِبرة وهو القائد العَبرة في آن واحد.
ونجد في تعريف معنى القيادة - Leadership "هي: صفة تدل على أهلية وقدرة وموهبة لتسيير عمل جماعي واستقطاب مجموعة من الناس في سبيل السير نحو تحقيق غاية مشتركة. ويتحقق الاستقطاب عادة من خلال الثقة والاقتناع العملي أو النظري بشخصية القائد أو أشخاص القيادة وغاياتهم والإعجاب بسيرتهم وسلوكهم وبقدرتهم على انجاز المهام والاستجابة للتحديات المطروحة ولا بد من توافر التعاطف والاتصال بين القيادة وأتباعها" موسوعة السياسة: 4/833.
مرّ الإمام الحسين في حياته بمرحلتين من القيادة:
الأولى: القيادة الحضورية، حيث كان الإمام يعايش القيادة الفعلية فقط. ويمكننا اعتبار هذه المرحلة - مجازاً لا واقعاً، فهو كمعصوم قائد فعلي في كل وقت - مرحلة القيادة التجريبية والتدريبية أيضاً. وقد استمرت هذه المرحلة مدة وقدرها 46 سنة، منذ ولادته في السنة الرابعة من الهجرة حتى استشهاد أخيه الحسن في سنة 50 من الهجرة. وعاصر خلالها مختلف أنواع القيادة، الصادقة والمخلصة والربانية، كقيادة النبي للأمة والدولة ومن ثم قيادة أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وبعدها قيادة أخيه الحسن . وكذلك عاصر قيادات أخرى متباينة في تلونها بالسياسة والقائمة على المنسوبية والمحسوبية والنفاق والمكر والخديعة، منذ الخليفة الأول ومروراً بالخليفة الثاني فالثالث، ووصولاً إلى معاوية بن أبي سفيان.
الثانية: القيادة الفعلية. ويمكننا اعتبارها مرحلة التطبيق العملي لمبادئ القيادة عند الإمام الحسين . وقد استمرت لمدة 11 سنة منذ شهادة الإمام الحسن سنة 50 للهجرة حتى شهادة الحسين في كربلاء عام 61 من الهجرة. في هذه المدة كان سلام الله عليه يمثل القيادة الحقيقية للأمة والدين، وكان معاوية بن أبي سفيان ومن بعده ولده يزيد يمثلان القيادة المزورة للأمة والدين والدولة.
وفي المرحلتين كانت الأمة الإسلامية تعايش وتشاهد وتشهد وجهين متناقضين للقيادة، وترى الأمة كذلك نظامين لإدارة الأمة والدولة والمجتمع. قيادة ونظام يمثلان رسالة الله لإحقاق الحق بين الناس على هيئة نظام يريد سعادة الناس للدين والدنيا والآخرة. وقيادة ونظام يمثلان الشيطان فيحتكر الثروة للقبيلة ويرسخ هيمنة الفرد على هيئة نظام لا يريد إلا إسعاد نفسه حتى ببيع الدين والآخرة. وقد أبان الإمام الفرق بين هاتين القيادتين عندما "ورد عليه في الثعلبية - مكان بين مكة وكربلاء - رجل يقال له بشر بن غالب، فقال يا بن رسول الله أخبرني عن قول الله عز وجل: "يوم ندعُوا كل أُناس بإمامهم" 71 الأسراء، قال: "إمام دعا إلى هدى فأجابوه إليه، وإمام دعا إلى ضلالة فأجابوه إليها، هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، وهو قوله عز وجل: "فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير"7 الشورى، موسوعة الكلمة: 8/190.
فأساس القيادة عند الإمام "الدعوة"، التي هي بمثابة المعيار الأول لقياس نمط أنواع القيادات، فأما أن تدعوا القيادة إلى الحق والهدى والصلاح أو أنها تدعوا إلى الباطل والضلال والفساد. لذا ليس كل قائد سياسي هو قائد رسالي، ولكن يمكن أن يكون القائد الرسالي قائداً سياسي.
نجد الفارق الأول بين القائد السياسي والقائد الرسالي في المقارنة بين فعلين، فعل لقائد رسالي كالحسين ، وفعل لقائد سياسي كطارق بن زياد، فطارق بن زياد يدير معركة بروح سياسية، والحسين يدير معركة بروح رسالية. "في الحرب التي شنها طارق بن زياد ضد الأسبان نراه يبادر فور عبوره بأسطوله المضيق، المسمى الآن باسمه - مضيق جبل طارق -، بإعطاء الأوامر لجنده بإبقاء ما يكفيهم من الزاد لأربع وعشرين ساعة فقط وإحراق الباقي وإحراق سفن أسطوله معه ثم يجمع الجند والقادة فيقول لهم بأن العدو من أمامهم والبحر من ورائهم والفرار يجعل مصيرهم الغرق وهم لا يملكون الطعام إلا لسويعات فلا نجاة لهم إلا في قتال العدو والفوز عليه وإبادته، إن الذي فعله طارق بن زياد هو عمل قائد سياسي، بينما الإمام الحسين لم يخوف أصحابه بالبحر والعدو ولم يرغمهم على دخول الحرب بجانبه كما أن العدو نفسه لم يكن ليجبرهم على القتال لو أرادوا ترك المعركة، لقد خير الحسين أصحابه بالبقاء أو الذهاب دون أي إكراه" مطهري، بين المنبر والنهضة الحسينية: 143.
أما الفارق الثاني بين القائد السياسي والقائد الرسالي فمحوره الموقعية والمكانة التي يقف عليها القائد تجاه من يقودهم. فالقائد السياسي يعمل على بقاء نفسه حتى لو مات أتباعه، لأن في بقائه استمرار للقضية، فيعتبر نفسه المحرك الأول والأساسي لماكينة القضية، فيجهد لبقاء نفسه خلف الأتباع يسوقهم. بينما القائد الرسالي فموقعه في مقدمة الأتباع ليقودهم ويكون أول المضحين والمستشهدين متى ما تطلب الأمر الاستشهاد. ويقول اللغويون بهذا الفارق بين من يسوق القوم ومن يقودهم، فالأول يقف ويمشي خلفهم كما يسوق الراعي أغنامه، بينما يقف الثاني ويمشي أمامهم كالفارس الذي يتبعه الفرسان إقتداءً وتشبهاً به وبعمله.
أما الفارق الثالث بين القائد السياسي والقائد الرسالي فمحله كيفية التعامل مع مسألة الموقع القيادي الشاغر. فالقائد السياسي هو الذي يركض وراء الزعامة والمنصب والقيادة كيزيد وأبيه معاوية، وكشريح القاضي ومن على شاكلتهم، بينما الموقع القيادي هو الذي يطلب القائد الرسالي ويبحث عنه كي يسد فراغه وشاغريته. فالحسين لم يكن بحاجة إلى مكانة الزعامة وإلى موقعية القيادة، بل كان موقع القيادة في الأمة هو الذي بحاجة إلى الحسين . ألم يبعث ثمانية عشر ألف من أهل الكوفة برسائلهم، حسب أقل الروايات، يعرضون عليه البيعة ويبدون رغبتهم في أن يكون إمامهم؟ بل أكثر تلك الرسائل تحمل مجموعة من التواقيع لأشخاص وعوائل وقبائل، وقيل بأن مجموع تلك التواقيع بلغت مائة ألف. لماذا؟ لأن موقع القيادة شاغرٌ ولم تسده القيادة المزيفة المتمثلة في يزيد وبني أمية. فاستجاب الحسين لرغبة الأمة، وهو يعلم بأنه مقبل على موقع القيادة من أجل تأدية ما عليه من دور رسالي، وليقوم بما عليه من تكليف مكمل لرسالة جده المصطفى وأبيه .
وللإمام الصادق كلمات جميلة في من يتصدى للقيادة وهو ليس بأهل لها، أو يجري نحو ترأس الناس فيهلك نفسه ويهلك الناس معه، فيقول : "من طلب الرئاسة هلك" موسوعة الكلمة: 15/208
وعنه : "إياكم وهؤلاء الرؤساء الذين يترأسون، فو الله ما خفقت النعال خلف رجل إلا هلك وأهلك" المصدر السابق.
وعنه : "ملعون من ترأس، ملعون من همّ بها، ملعون من حدث بها نفسه" المصدر السابق
هنا يُحيط القادة من السياسيين خطرٌ عظيم وهو خطر الوقوع في النفاق لأن الساسة المنافقين يتصفون بصفات من السهل على القائد السياسي الانزلاق إليها. وعن الباقر : " إن الله تعالى أنزل كتاباً من كتبه على نبي من أنبيائه، وفيه: أنه سيكون خلق من خلقي يلحسون الدنيا بالدين ويلبسون مسوك الضأن على قلوب كقلوب الذئاب أشدّ مرارة من الصبر، ألسنتهم أحلى من العسل وأعمالهم الباطنة أنتن من الجيف... " موسوعة الكلمة: 11/277
أما الفوارق الأخرى بين القائد السياسي والقائد الرسالي فسنجدها في طي صفحات البحث التالية.
إذا رجعنا إلى دراسة تاريخ الأربعة عشر معصوماً لتحديد دورهم المشترك الذي نصبوا أنفسهم للقيام به والتضحية من أجله، سنجد أن هذا الدور يتمركز على تبني الأئمة، بما فيهم الحسين ، لدورين رئيسيين هما:
1 - المحافظة على عقيدة الأمة ومواجهة أي محاولة تحريف لها، والتصدي لتقويم أي انحراف تتعرض له.
2 - رعاية شيعتهم وتبني قضاياهم والمحافظة على تماسكهم وتطويرهم ورفعة شأنهم.
ويقول أية الله السيد محمد باقر الصدر قدس سره الشريف في هذا الصدد: "إن الدور المشترك الذي كان الأئمة يمارسونه في الحياة الإسلامية، هو دور الوقوف في وجه المزيد من الانحراف وإمساك المقياس عن التردي إلى الحضيض"، ويضيف رضوان الله تعالى عليه حول الجانب الأخر: "وهو جانب رعاية الشيعة بوصفهم الكتلة المؤمنة بالإمام ، والإشراف عليها بوصفها المجموعة المرتبطة به والتخطيط لسلوكها وحماية وجودها وتنمية وعيها. وإسعافها بكل الأساليب التي تساعد على صمودها في خضم المحن وارتفاعها إلى مستوى الحاجة الإسلامية إلى جيش عقائدي وطليعة واعية". الصدر، أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف: 103.
هذان الدوران هما مدار أقوال الأئمة وأفعالهم ومواقفهم في جميع الأحداث والملمات التي عاصروها أو تعرضوا لها. والأمام الحسين ، كقائد لمرحلته، قام بهذين الدورين على أكمل وجه. وقد لخصهما في محطات عديدة من حياته، وأكد عليهما خلال مسيرته إلى كربلاء. منها ما جاء في وصيته التي أودعها أخاه محمد بن الحنفية رضوان الله عليه: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي محمد وأبي علي بن أبي طالب ، فمن قبلني بقبول الحق، فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين". موسوعة الثورة الحسينية: 4/43.
هذان الدوران يحتاجان إلى قيادة صادقة ونبيلة كي تقوم بهما، لأن القيادة الفاسدة لا يمكن أن تؤدي دور المحافظة على العقيدة أو دور رعاية الشيعة. لذا هناك مواصفات للقائد الحقيقي ينبغي توفرها فيه كي يتصدى لقيادة المجتمع والأمة. "ولا بدّ أن نلاحظ بأن القيادة التي يبحث عنها القرآن الكريم أسمى من القيادة والزعامة التي يبحث عنها البشر، إن القيادة التي يفهمها البشر لا تتجاوز الزعامة الدنيوية بينما القيادة المتجهة نحو الله، فهي بالإضافة إلى القيادة الاجتماعية، قيادة معنوية وهذا أعمق بكثير من القيادات الاجتماعية كلها" مطهري، الفكر الإسلامي وعلوم القرآن الكريم: 481.
ونستعرض هنا بعض أفكار الإمام الحسين حول القيادة. ونعرضها على نسقين: الأول: ما يطرحه الإمام كصفات عامة وأساسية للقائد والحاكم. والثاني: ممارسات الإمام التطبيقية والفعلية لمواصفات القائد وسلوكه.
أ - صفات القائد العامة:
يقول الإمام الحسين : "فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحق، والحابس نفسه على ذات الله". الإمام الحسين سيد الشهداء، أعلام الهداية: 5/144. وهنا يعرض الإمام أربع صفات أساسية للقيادة، وهي بمثابة الأساس الشرعي والغطاء السياسي لوجودها وحضورها وفاعليتها، وبدونها مجتمعة، أو بدون أحدها، يكون القائد أكثر قرباً ليكون قائداً سياسياً لا قائداً رسالياً، بل كلما افتقد القائد واحدة منها ابتعد أكثر نحو الانغماس في القيادة السياسية، فالمسألة هنا درجات واسعة من التدرج بين القيادة السياسية والرسالية. والصفات العامة هي:
1 - العامل بكتاب الله.
هنا يحدد الإمام القاعدة الأولى للقائد الرسالي، وهي ليست الإيمان بكتاب الله، وهو أمر ضروري، ولكن الإمام ينتقل إلى مرحلة متقدمة على ذلك وهي وجوب كون القائد "العامل بكتاب الله" مع نفسه وتجاه أهله وبيئته ومجتمعه وسياسته وقضائه. وقد قال سلام الله عليه: "نحن حزب الله الغالبون، وعترة رسوله الأقربون، وأهل بيته الطيبون، وأحد الثقلين، الذين جعلنا رسول الله ثاني كتاب الله تبارك وتعالى، الذي فيه تفصيل كل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والعول علينا في تفسيره، لا يبطينا تأويله، «و» بل نتبع حقائقه" موسوعة الثورة: 4/233.
وقال : "اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وعلمتنا القرآن". موسوعة الثورة: 4/233.
2 - الآخذ بالقسط.
فمن جانب أولي فإن مجمل معركة كربلاء هي معركة بين العدل وأهله والظلم وأهله. وقد سعى الإمام عبر خطبه وكلماته أن ينصف أعداءه منه وأن ينصف نفسه منهم. وقد كرر ألفاظ مثل المعذرة والأعذار، بعذر وأعذركم، كلها كانت في سياق إلقاء الحجة عليهم وقيام الإمام بواجبه تجاههم.
وكأني به، بأبي وأمي، يقول مخاطباً الجيش الأموي ليذكرهم بأنهم بالتأكيد لا ينكرون أنه باب العدل والقسط الذي منه يُؤتى ويُطلب، لذا يحاججهم بمنطق العدل والقسط تجاه نفسه أولاً، فيقول: "أخبروني، آتطلبوني بقتيل منكم قتلته، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص من جراحة" موسوعة الثورة: 4/253.
3 - الدائن بالحق.
قاعدة أساسية تنطلق منها مواقف القائد الرسالي وأقواله، وهي قاعدة "الحق". وهو الحق الذي يشخصه ويحدده كتاب الله ويقوم على العدالة والقسط. لا يهتم بعدها أكان هذا الحق مع الضعيف أم مع القوي. فيقول سلام الله عليه في واحدة من خطبه: "ألا ترون الحق لا يُعمل به والباطل لا يُنتهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله" موسوعة الثورة: 4/263.
4 - الحابس نفسه على ذات الله.
كان الإمام الحسين دائماً مع الله، لا يفارقه ولا ينساه، ولا يأخذ عن غيره، فهو المحور لتوحيده سبحانه وتعالى، فيعيش في كنف الربوبية ولا ينقطع عن الباري في كل حالاته، بل يعيش الأمل بالله كما يعيش الخوف منه دائماً. وقال : "فإنه لم يشاقق الله ورسوله من دعا إلى الله عز وجل وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين، وقد دعوت إلى الأمان والبر والصلة، فخير الأمان أمان الله، ولن يؤمن الله يوم القيامة من لم يخفه في الدنيا، فنسأل الله مخافة في الدنيا توجب لنا أماناً يوم القيامة" موسوعة الثورة: 4/263.
وقال للفرزدق الشاعر: "لله الأمر، والله يفعل ما يشاء، وكل يوم ربنا في شأن، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء، فلم يعتد من كان الحق نيته والتقوى سريرته" موسوعة الثورة: 4/263.
لذلك، كان مطلبه الدائم هو "رضا الله" سبحانه وتعالى. وعندما كان سلام الله عليه يودع قبر جده رسول الله قال: "اللهم إني أحب المعروف وأنكر المنكر، وأسألك يا ذا الجلال والإكرام، بحق القبر ومن فيه إلا اخترت لي ما هو لك رضا ولرسولك رضا" موسوعة الثورة: 4/232.
ب - صفات الممارسة القيادية
بالإضافة للصفات المتعارف عليها عن الإمام الحسين مثل قوة الإرادة، الإباء عن الضيم، الشجاعة، الصلابة في الحق، الصبر، الحلم، الرأفة والعطف، الجود والسخاء، القرشي، حياة الإمام الحسين : 1/ 112 - 127، كانت له صفات قيادية بارزة، نعرض بعضها بصورة موجزة:
1 - مصداقية القائد في استقامته:
القائد الرسالي هو الذي لا يتحول أو يتغير في خطه وفكره فيصبح كل يوم هو في شأن، لأن القائد الحقيقي لا يكون في يوم مشاكساً وثائراً ومتمرداً وفي يوم أخر هو مهادن ومتخاذل. والقائد الحقيقي لا يساوم على حساب قضيته مهما كبرت المكاسب الآنية، ألم يقل الحسين لأخيه محمد بن الحنفية: "يا أخي! والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية". وقال أمام أعدائه: "إن مثلي لا يبايع مثله". ووقف أمام الجيش الأموي صارخاً: "والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ إقرار العبيد، إني عذت بربي وربكم أن ترجعون". الإمام الحسين سيد الشهداء، أعلام الهداية: 5/43.
فاستقامة القائد الحقيقي تتلبسه في كل مراحله وفي رؤيته ونشاطه وهدفه، ونقول تتلبسه مجازاً لا واقعاً، لأن استقامة الإمام فطرية لا تحتاج إلى تلبس.
2 - تواضع القائد في سلوكه:
فالقائد الرسالي لا تتملكه نرجسية لذاته مما يُنفر الآخرين من حوله. بل هو من التواضع بمكان بحيث يُخجل الآخرين من تواضعه لهم. وقد "مر الحسين بمساكين قد بسطوا كساءً لهم وألقوا إليه كسراً «خبزاً يابساً»، فقالوا: هلمّ يا بن رسول الله، فثنى وركه وأكل معهم ثم تلا: إن الله لا يحب المستكبرين، ثم قال: أجبتكم فأجيبوني، فقاموا معه حتى أتوا منزله، فقال للجارية: أخرجي ما كنت تدّخرين". موسوعة أهل البيت: 9/86.
لأن القائد الحقيقي لا يرى نفسه فوق من حوله، بل لا يرى أنه أفضل منهم أبداً. وقد سُئل الإمام الحسين عن معنى الأدب، فقال: "هو أن تخرج من بيتك فلا تلقى أحداً إلا رأيت له الفضل عليك". الإمام الحسين سيد الشهداء، أعلام الهداية: 5/227.
ومن تواضع القائد الحقيقي أنه يُجيد فن الاستماع للنصيحة، ويقبل بها، بل عليه أن يقبل حتى عذر من أخطاء في حقه. فقد روي عن الحسين أنه قال: "لو شتمني رجل في هذه الأذن - وأومأ إلى اليمنى - واعتذر لي في اليسرى لقبلت ذلك منه، وذلك أنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حدثني أنه سمع جدي رسول الله يقول: لا يرد الحوض من لم يقبل العذر من محق أو مبطل". الإمام الحسين سيد الشهداء، أعلام الهداية: 5/39.
بل من تواضع القائد الرسالي أنه يبحث دائماً عن المستشارين الصادقين، ولا يهتم في تحشيد الإمعات أو تكثير الأتباع من المطيعين فقط. يصنع ويُكثر المستشارين الصادقين والمخلصين الذين لا يخافون في الله لومة لائم.
لذا نجد الإمام الصادق يقول: " إن الإمامة لا تصلح إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن المحارم، وحلم يملك به غضبه، وحُسن الخلافة على من ولي حتى يكون له كالوالد الرحيم" موسوعة الكلمة: 15/174
3 - إيثار القائد في تضحيته:
القائد الرسالي هو الذي يؤثر الآخرين على نفسه حتى في ما يمتلك مما يخصه هو. فلا يرمي الناس في التهلكة عندما يُضحي بهم بينما يبني لنفسه خطاً للتراجع عن قراراته، لأن هذا المنهج يسلكه القائد السياسي لا القائد الرسالي. والقائد الحقيقي هو الذي يكون في قمة جاهزيته للتضحية بوقته وماله ونفسه وعياله، في كل لحظة وفي كل محطة من محطات النضال. ونجد ذلك متجسداً في الإمام سواء في تاريخه الطويل أو في مسيرة الثورة منذ لحظاتها الأولى حتى شهادته حيث كان في مقدمة المضحين عندما احتاجت قضية الأمة للتضحية والفداء.
ومن تضحيات القائد القدرة على تحمل الآخرين، كالمنتقدين، والمراقبين، والحاسدين، والحاقدين، والطامعين، والناصحين، بل قدرته على تحمل حتى الصادقين والكاذبين. فأجناس الناس من الكثرة والتنوع بمكان بحيث تحتاج إلى سعة صدر القائد، بل يحتاج القائد أحياناً إلى تحمل أخطاء من حوله وجريرتهم، وقد يتطلب الأمر منه في بعض الأحايين أن يحزم مع أصحابه كي يترفعوا عن سفاسف الأمور وصغائرها أو يتحمل تبعات جريرتهم تجاهه كقائد، وتجاه الناس، وتجاه بعضهم البعض. وقد "أقبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ذات مرة على الحسين أبنه فقال له: يا بني ما السؤدد؟ قال: اصطناع العشيرة واحتمال الجريرة... " وموسوعة الكلمة: 8/107.
4 - ثبات القائد على مبادئه:
القيم والمبادئ التي ينبغي للقائد التمسك بها وعدم الحياد عنها كثيرة، منها: التعاون، الحب، الصبر، الحلم، سعة الصدر، السخاء، المروّة، الورع، حُسن الاستماع، حُسن العشرة، الاستشارة، الإنصاف، المساواة... وقد جسد الحسين كل تلك المبادئ، ولكننا هنا سنعرض لقيمتين منها.
"قيمة الصدق": القائد الرسالي ينبغي أن يتصف بالصدق مع الجميع، مع العاملين معه، ومع مريديه، ومحيطه، بل حتى مع أعدائه، فلا يكذب مطلقاً، فهو رمز للصدق، والصدق يتمثل فيه. والحسين ينطبق عليه ذلك، أليس هو القائل: "... والله ما تعمدت الكذب منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله ويضر به من اختلقه... " موسوعة الثورة: 4/232. فقد كان، ومنذ خروجه من مكة حتى لحظة شهادته، يترجم بسلوكه وتصرفاته الصدق بحرفية كاملة. فكلما جاءه خبرٌ عن مدى استعداد الجيش الأموي، أو عندما بلغه مقتل رسوله إلى الكوفة مسلم بن عقيل، أو كلما اقترب وأصاحبه من كربلاء، كان سلام الله عليه يجمع أصحابه وأهله ليكاشفهم ويصارحهم بما هو وهم مقبلون عليه من البلاء والرزايا والموت المحتوم، بل يخيرهم بين الانصراف عنه أو البقاء معه لمواجهة المصير المعلوم. فعندما نزل الحسين في منزلة زبالة، أتى إليه خبر شهادة مسلم بن عقيل... فقال : "اللهم اجعل لنا ولشيعتنا منزلاً كريماً، واجمع بيننا وبينهم في مستقر رحمتك، إنك على كل شيء قدير" ثم أخرج للناس كتاباً فقرأ عليهم فإذا فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فإنه قد أتانا خبر فضيع: قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر، وقد خذلنا شيعتنا فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف، في غير حرج، ليس عليه ذمام". فتفرق الناس عنه، وأخذوا يميناً وشمالاً حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة، ونفر يسير ممن انضموا إليه". موسوعة الكلمة: 8/203 - 204.
وفي اليوم الثاني من المحرم سنة أحدى وستين من الهجرة قام الحسين خطيباً في أصحابه وقال: "إنه قد نزل من الأمر ما ترون، وأن الدنيا تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها وإني لا أرى الموت إلا سعادة". موسوعة أهل البيت: 9/147.
وفي ليلة عاشوراء قال لأصحابه: "هذا الليل فاتخذوه جُنة فإن القوم إنما يريدوني ولو قتلوني لم يلتفتوا إليكم وأنتم في حِلٍّ وسِعة". وفي رواية أخرى قال: "إني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم ذمام هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا، وليأخذ كل واحد منكم بيد رجل من أهل بيتي وتفرقوا في سواد هذا الليل وذروني وهؤلاء القوم، فإنهم لا يريدون غيري" موسوعة أهل البيت: 9/151 - 152، والإمام الحسين سيد الشهداء، أعلام الهداية: 5/188 - 189، وموسوعة الكلمة: 8/58.
وقد بلغ من صراحته وصدقه أعلى مراتب الصدق الخالص عندما جاءه جون مولى أبي ذر رضوان الله تعالى عليه ليستأذنه، والإمام في لحظة من لحظات الحاجة القصوى لكل رجل، رغم ذلك قال له الإمام : "أنت في أذن مني فإنما تبعتنا طلباً للعافية، فلا تبتل بطريقنا". وموسوعة الكلمة: 8/235.
"قيمة الأمانة: وللقائد مع الأمانة صورتين، الأولى تجاه الرسالة التي يحملها والقضية التي يتبناها، والثانية تجاه سلوكه مع من حوله من أصحاب وأعداء. فالرسالة أمانة والقائد الحقيقي لا يخون الأمانة، ومن خيانة القائد أن يقبل لنفسه ومجتمعه وقضيته الذلة والإذلال. وقد قال الإمام الحسين : "ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأُنوف حمية، ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام" الإمام الحسين سيد الشهداء، أعلام الهداية: 5/43.
أما صورة الأمانة عند القائد كسلوك فتتجلى في أمانته في حديثه إذا حدث، وفي تصرفاته إذا تعامل مع الآخرين بحيث لا يخدش ماء وجه الآخرين ولا يعتدي عليهم، وهذا مسلكه مع من حوله من الأصحاب أو مع الأعداء، ونجد هذه الصورة عند الإمام الصادق عندما سأله معاوية بن وهب: كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممن ليسوا على أمرنا؟ قال: "تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون، فوالله إنهم ليعودون مرضاهم ويشهدون جنائزهم ويقيمون الشهادة لهم وعليهم ويؤدون الأمانة إليهم". موسوعة أحاديث أهل البيت : 1/424/ح915. وقال أيضاً مما جاء به محمد : "أدُّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برّاً أو فاجراّ فإن رسول الله كان يأمر بأداء الخيط والمخِيط... " موسوعة أحاديث أهل البيت : 1/423/ح916. وعن أمير المؤمنين قال: "أدّوا الأمانة ولو إلى قاتل ولد الأنبياء" موسوعة أحاديث أهل البيت : 1/425/ح919.
5 - إخلاص القائد لقضيته
لا يفكر القائد الرسالي في مكاسبه الشخصية على حساب قضيته. بل لا يعمل لتحقيق مصالحه الذاتية والفئوية على حساب قضيته. فقد جاء الكثيرون للحسين ليقبل البيعة ليزيد لعنة الله عليه، لكنه نصب أمام عينيه هدفاً واحداً هو الحفاظ على دين الأمة وخلود القيم الرسالية وبقاء روح التدين الحقيقي في صدور الناس، والعمل على الدفاع عن شيعته ووحدتهم. فلم يتزعزع إخلاصه لقضيته للحظة واحدة قط.
القائد المخلص لا ينازع الآخرين والمحيطين به في حضوتهم من الرفعة والتدرج في السلم الاجتماعي والسياسي، بل هو على العكس، يهتم في تقوية من حوله، لأن علوهم إعلاء للقضية التي هو يتبنى الإخلاص لها. من جهة أخرى يؤمن القائد المخلص بقاعدة "الاعتماد على قلة من الأقوياء أفضل من كثرة من الضعفاء"، لأن كثرة من الضعفاء تزيد القائد ضُعفاً في الرأي وضُعفاً في المواقف، بينما الأقوياء يزيدون القائد قوةً في البصيرة وقوةً في المواقف.
فلننظر لأقوال الإمام الحسين في أصحابه وكيف يرفع ويعلو من مقامهم وشأنهم. منها ما قاله في مسلم بن عقيل في رسالته إلى أهل الكوفة التي حملها مسلم ذاته إليهم، وقد قال فيه: "... وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي... " موسوعة الثورة: 4/134
لا يتحقق إخلاص القائد لقضيته إلا بشاحن دائم يزوده بوقود الإخلاص المستمر. هذا الوقود لا يأتي بالنجاحات والانجازات، ولا يتأثر أو ينقص مع الإخفاقات، لأنه وقود رباني يتزود به القائد على مدار الساعة، حتى في نومه ورقاده. فزاده العلقة بالله في كل آن، والارتباط به في كل ظرف ومكان. لذا نجد الحضور الإلهي عند سيد الشهداء مسيطراً على ذاته، فكان يقوم بين يدي الجبار مقام العارف المتيقن والعالم العابد، فإذا توضأ تغير لونه وارتعدت مفاصله، فقيل له في ذلك، فقال : " حق لمن وقف بين يدي الجبار أن يصفر لونه وترتعد مفاصله". الإمام الحسين سيد الشهداء، أعلام الهداية: 5/47.
كما للقيادة الرسالية صفات تتسم شخصية القائد بها، كذلك للقيادات السياسية صفات تمتاز بها، بخاصة عندما تستغرق في العمل السياسي. وقد قال الإمام الحسين في شر خصال الملوك: "شرّ خصال الملوك: الجبن من الأعداء، والقسوة على الضعفاء، والبخل عند الإعطاء" موسوعة الكلمة: 8/188. وقال في خطبة له يخاطب بها الأعداء: "نحن أهل بيت محمد وأولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان... " موسوعة الكلمة: 8/207
من هاتين الفقرتين نستخلص بعض من صفات القيادات المزورة، منها:
- الجبن وهو ضد الشجاعة، مما يُنتج الخوف والتردد وعدم الجرأة في مواجهة المواقف والأعداء في شخصية القائد.
- القسوة على الضعفاء والمحتاجين ومن لا حول لهم ولا قوة في مواجهة الظلم، وهي قسوة تظهر في أقوال وأفعال القائد.
- البخل، والبخل في القائد لا يُقصد منه البخل المادي فحسب، بل البخل في مدح الأصحاب، والبخل العاطفي تجاه المحيطين بالقائد، البخل بالوقت والمال والمشاركة، البخل في الأفعال الإنسانية والأقوال من قبل القائد. أما البخل المالي في القائد فيجعل عينيه ذاهبة ليس إلى الاحتكار وحب التملك فحسب وإنما طمعه يتجه حتى إلى ما في أيدي الناس من أموال وممتلكات لنهبها.
- الإدعاء، وهو صنوف من إدعاء الحق، مثل إدعاء الرياسة، وإدعاء الاجتهاد، وإدعاء التدين، وهي مجموعة من الإدعاءات يريد منها القائد تثبيت شرعية قيادته للمجتمع والأمة والدين والدولة.
- الجور والعدوان. من يدعي القيادة سيظلم ليسود الناس. ومن يدعي القيادة سيعتدي كي يزيح القيادة الحقيقية. من يدعي القيادة سيجور من أجل إشباع رغباته من الجاه والشهوات والتملك. من يدعي القيادة سيعتدي كي تطيعه الجماهير وتخضع له.
غالباً ما يسعى القائد السياسي ويعمل للوصول إلى مصالحه الفردية والعائلية والقبلية والفئوية، إلا ما ندر. ويجري باستمرار نحو احتكار الثروة. وغالباً ما يمتاز بالتلون الفاقع حسب ما تمليه سياسة المصالح وتوجهه. بل لا يمنعه مانع عن اللعب في السياسة باسم مصلحة الأمة والدين، ويبرر كل أفعاله وأقواله تحت عنوان ضرورات السياسة وضرورات المرحلة. وعندما تناقشه، إذا سمح بالنقاش، يقول للجميع هي اجتهادات يراد منها تحقيق مصالح الناس والبلاد. هنا، ينبري البعض متسائلاً: هل هي اجتهادات وأراء أم أنها تقاطع للمصالح والرغبات؟
وما حدده الإمام من صفات القائد السياسي، غير الصالح، قد قال به أبوه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حيث قال: "وقد علمتم أنهُ لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء، والمغانم والأحكام، وإمامة المسلمين:
البخيلُ، فتكون في أموالهم نهمتُهُ.
ولا الجاهلُ، فيُضلهم بجهله.
ولا الجافي، فيقطعهُم بجفائه.
ولا الحائفُ للدُّول، فيتخذ قوماً دون قومٍ.
ولا المرتشي في الحكم، فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع.
ولا المُعطِّلُ للسنة، فيُهلك الأمةَ". نهج البلاغة: 4/2/204.
إن مواقف وسيرة الإمام الحسين مليئة بالدروس في صناعة القادة. وهي مسيرة مكملة لسيرة النبي محمد وعلي وأخيه الحسن في تربية الأصحاب وتهيئتهم للأدوار القيادية. لأن صناعة القادة من أعسر وأهم الصناعات في عالم إدارة الأمم والمجتمعات. وقد أهتم المعصومون بهذا الأمر لما يقوم عليه وينتج عنه من خير كثير على الدين والمجتمع.
ولكن ينبغي التذكير بأن قادة الأمم كبشر ينطبق عليهم ما ينطبق على غيرهم من قواعد وسنن فطرية واجتماعية وعقلية، فهم ليس بدعاً من البشر، ولا يمتازون جسدياً ونفسياً وذهنياً عن بقية خلق الله. والقادة كشريحة اجتماعية فيها القائد الصالح والقائد الفاسد، مثلها مثل بقية الشرائح الاجتماعية. ولكن خطرها أعظم من بقية الشرائح لموقعيتها في سلم الاجتماع السياسي والديني، ولمكانتها في نفوس الأفراد والنفوس، ولإمكانياتها المادية والمعنوية. لذا فإن خطرها يكمن في استقامتها أو في انحرافها، وفي مقدار درجة الانحراف أو درجة الاستقامة. وعليه فإن إصلاحها هو إصلاح للأمة وإغوائها إغواء للأمة.
هنا، تأتي أهمية وضرورة تصدي نخب المجتمع بأنواعها المختلفة، النخب الدينية، النخب الثقافية، النخب السياسية والحقوقية، الواجهات الاجتماعية والتجارية، تصديها للعمل في اتجاهين من التفكير والتخطيط نحو موضوع القيادة:
1 - تثبيت وجود القادة الموجودين وتعزيز حضورهم، ولا يتم ذلك إلا بمعالجة وإصلاح الجوانب السلبية ونقاط الضعف فيهم بالتوجيه والتناصح، فليس هناك من كبير على التناصح والتوجيه. أما الانصراف عنهم، تحت أي مبرر كان، إنما يزيد القائد عزلةً ووحدة وبالتالي يزداد تفرداً في إدارة الأمور واتخاذ القرارات. نعم هناك حالات تُنفر الناس من التناصح مع القادة لاسيما عندما لا يقبل القائد التوجيه أو النصح والنصيحة، أو عندما يصف الناصحين له بالجهل أو بالتدخل في ما لا يعنيهم أو ما أشبه... بل من الضروري العمل على تطوير شخصيات القيادات القائمة في مجالات صناعة القرار وبلورت الأفكار واستقطاب الجماهير وتبني همومهم وطموحاتهم.
2 - صناعة القادة الجدد كي تنبعث في الأمة خلايا بدماء جديدة بشكل دائم ومستمر. ولا بد من التركيز على صناعة نوعية القادة: قادة متصدون في العمل الاجتماعي، وقادة متصدون في العمل السياسي، وقادة متصدون في العمل الإعلامي، قادة متصدون في العمل التجاري والاقتصادي... الخ. هذا العمل يعني أن تتبنى النخب بعض الأسماء وفق معايير صناعة القادة، وتُخطط لتنضيجها وتطويرها ودفعها لساحة العمل.
من جهة أخرى، هناك في كل أمة ومجتمع دائماً أسماء مرشحة للقيادة المستقبلية، تبرز من خلال ما تقدمه من تضحيات، وتظهر من خلال ما تقدمه من نتاجات فكرية وعلمية، وتسطع من خلال ما تقدمه من مواقف تجاه قضايا الأمة والمجتمع. تلك الأسماء بحاجة إلى الالتفات والعناية والإحاطة والتوجيه كي تستوعبهم المجتمعات ومن ثم يستوعبون هم المجتمع.
نعم هناك مناهج لصناعة القادة، فعالم اليوم يحتوي على نظريات مختلفة عن القيادة والقادة، بل أصبحت مادة صناعة القادة لها مناهج تعليمية وتدريبية يمكن الاستفادة منها. وهناك دورات متخصصة قي صناعة القادة. مجتمعاتنا بحاجة إلى قادة في كل مجال من مجالات الحياة والعلم والدين والسياسة والاقتصاد...
"ربما يتفاجئ البعض ويتساءل قائلًا: وهل يمكن صناعة القائد؟ أو ليست القيادة صفة يمتلكها البعض ويُحرم منها الآخرون، وبالتالي من حباه الله نعمة القيادة كان قائدًا، وإلا فلا يتعب نفسه ويشق عليها فيأمرها بما لا تُطيق، ويُروضها على ما لا تستطيع.
وهنا ينقسم الناس إلى فريقين: فريق يقول أننا نولد بها، ولعل هذا الفريق يستند على قول وارين بينيس حين يقر هذه القاعدة فيقول: «لا تستطيع تعلم القيادة؛ القيادة شخصية وحكمة وهما شيئان لا يمكنك تعلمهما».
ولكن في المقابل يأتي الفريق الآخر والذي يرى أن القيادة كغيرها من مهارات الحياة كالمشي، وقيادة السيارة، والكتابة وغيرها يمكن تَعَلُمُها، بل يرى بيتر دراكر عالم الإدارة الشهير أن: «القيادة يجب أن تتعلمها وباستطاعتك أن تتعلمها»، ويذهب وارن بالك إلى أبعد من ذلك حين يقرر بوضوح أنه: «لم يولد أيُّ إنسان كقائد: القيادة ليست مبرمجة في الجينات الوراثية، ولا يوجد إنسان مركب داخليًّا كقائد» " كيف يتم صناعة القادة؟، أ. هشام مصطفى، موقع مفكرة الإسلام.
"لقد أرسل النبي محمد معاذ بن جبل إلى اليمن، لأجل دعوة الناس، وإرشادهم إلى الدين، وتولّي شؤون اليمن، وألقى على سمعه، هذه التعاليم التي تُعتبر منهاج عمل لكل واحد منا - مع أن أكثرنا يعمل على خلافها -، يقول : يسرّ ولا تعسرّ، ولا تُنفر، وصلِّ بهم صلاة أضعفهم" مطهري، الفكر الإسلامي وعلوم القرآن الكريم: 487.
يوم عاشوراء كان ثورةً للقيادة المخلصة والصالحة على منهج القيادة الفاسقة والفاسدة. لذا فمعركة كربلاء هي ذروة التصعيد في المعركة بين هاتين المدرستين في القيادة. واستمرت تلك المعركة وستستمر حتى قيام يوم الدين. لقد نجح الحسين حيث صنع في الأمة الإسلامية مقارنة دائمة بين القيادتين والمدرستين، قيادة الحق وقيادة الباطل، قيادة البياض الناصع وقيادة السواد الغاتم. نعم هناك بين اللونين درجات من ألوان شتى تقترب من البياض أو تقترب من السواد، ولكنها جميعاً ليست ببياض ناصع، أي هي قيادات تشوبها الشوائب مهما ادعت أو زعمت رساليتها وثوريتها.
وبعد كربلاء أمست الأمة تقارن بين القيادتين، فيما كان عليه الحسين وفيما كان عليه يزيد. وكتب التاريخ، من العامة والخاصة، مليئة بمائة من صور تلك المقارنات. بل قال بعضهم في نجاح قيادة الحسين ، وهم من المحسوبين على الخط الأموي، كالمؤرخ أبن كثير، قال: "إن الإمام الحسين كان قائداً بارعاً وقد حقق كل الأهداف المرجوة لثورته مع أن الظرف عموماً لم يكن لصالحه وإمكاناته من حيث عدد الأعوان والسلاح كانت محدودة جداً، ويبدو من خلال خطبه وتوجيهاته وإدارته لحظة القتال، وحتى ترتيب معسكره وتعامله مع أصحابه وأعدائه وناصحيه ومحذريه، إن أداءه كقائد لفئة مقاتلة محدودة وقائد للأمة كلها، كان محسوباً ومدروساً ومتوازناً ومتوحداً، في كل مراحل مسيرته وحتى استشهاده، ولم يشذ أي موقف من مواقفه عن بقية المواقف الأخرى في أية مرحلة" موسوعة الثورة5/169 - 170.
ويمكننا القول بأن الإمام الحسين ينطبق عليه ما يسمى بـ "القائد الملهم - charismatic leadership" وهو "نموذج للقيادة يقوم على الخصائص البطولية أو المقدسة لشخصية القائد أكثر مما يعتمد على الوضع الرسمي سواء كان موروثاً أو مكتسباً. والقائد الكاريزمي أو الملهم، قد يكون في قمة السلطة أو خارج نطاقها أي لا يكون له وضع رسمي في تسلسل رئاسي ولكنه يحظى بقبول غامر لدى الجماهير". معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية: 57.