مشاعر طفل
تتذكره جيداً إنّه لا يريد أن يذهب للمدرسة.. تتذكر بكاءه الذي لا يتوقف راسماً نهرين فياضين من بركتي عيونه المتلبدة بالكآبة والحزن الكبيرين.. تتذكر أن والده كان يجره إليه بقوة من يده، ويده الأخرى متشبثة بثيابها بشدة.. يصرخ محمر الوجه مقطب الجبين يتعفر خائفاً أن لا يرى أمه ثانية.. حسم والده الموقف حينما لمح عقارب الساعة تقترب من السابعة موعد الاصطفاف الصباحي للمدرسة.. احتمل الصغير على كتفه وانطلق به إلى السيارة !
لم يكن يرى أمه في تلك اللحظة الأخيرة فالدموع حجبته عن رؤية يد أمه المودعة له بصفاء وابتسامتها الحانية تشيعه حتى غاب عن ناظريها.. تناولت دفتر الذكريات الذي خصصته له، تمنت أن تلتقط صورة تذكارية للحظة صراخه، إلا أنها أكتفت بتوثيق الكتابة مذيلة القصة بتاريخ الحادثة وعنونتها باليوم الأول في المدرسة ..
لم يعرف النوم لها طريقاً، توجهت لخزانة ملابسه لترتيبها إلا أنها أسفت أن تراها مرتبة في تلك اللحظة وعلى أتم حال، أصلحت فراشه وتذكرت أنها لم تجده في فراشه صبيحة هذا اليوم، فتشت عنه أسفل السرير فلم تجده، في خزانة الملابس فلم تره، فوجدت طرف ثيابه خلف الباب .. حركت الباب بهدوء لتجده مختبئاً عنها.. ابتسمت له علها تذيب ما تراكم من خوف في صدره !، إلا أنه أنفجر في نوبة بكاء صارخاً : " لن أذهب إلى المدرسة.. لن أذهب إلى المدرسة.. "
فارق النوم عيونها، أحست بالألم أنه اليوم الأول الذي يغيب عنها " جواد "، أحست بالوحدة من أجل فراقه تعلم أنه لن يتأخر، بضع ساعات قليلة ويأتي محملاً بالكثير من الأحاديث.. حاولت أن تطرد تلك المشاعر الخانقة وبدأت عملية الغسيل بملابسه أولاً تذكرت صراخه وهي ترش الماء فوق رأسه في تلك الصبيحة ليبدو نظيفاً متألقاً كأقرانه، كان يحب السباحة إلا في هذه المرّة مما أطرها أن ترميه في وعاء الاستحمام بملابسه دفعة واحدة، ابتسمت بألم وهي تراه يدفع عليها الماء بيديه الصغيرتين وهو يقول باستياء عارم : لا أحبك .. لا أحبك !!
همست مع نبضها وهي تدعك البقع عن ملابسه وكأنها ترى صورته من خلال فقاعات الصابون: " هل حقاً أنت لا تحبني يا جواد ؟! " لا تدري كيف انسلت منها دموع ساخنة في تلك الموجة العاطفية؟! مسحت ما تعلق بأهدابها بكمها المرفوع نحو الأعلى ..
وبدأت تكنس البيت على غير عادتها لعل صوت المكنسة الكهربائية يشتت عالمه الذي تحاول الفرار منه، إلا أنها لم تسمع في تلك اللحظة غير ضحكاته وكلماته اللثغاء، دعت له بالتوفيق وهي تنطلق بالمكنسة نحو غرفته وكأنها تفتش عنه، شاهدت ألعابه الملقاة تذكرت حينها أنها نسيت أن تضع كيس الحلويات في حقيبته عله يتسلى بها وقت استياءه وتضجره..
حاولت أن تعوض تقصيرها بإعداد وجبة شهية طالما كان يحبها، ومع ارتفاع صوت غلي البصل قاطع كل أحاسيسها صوته المنطلق من الخارج فرحاً مسروراً : " ماما.. ماما.. عندي كتب جديدة !! "
مرّ عليه النهار سريعاً حتى نامت عيونه الصغيرة، خلسة دخلت غرفته وهو في غمرة نوم هانئ، كلماته الغاضبة تعصر قلبها: " لا أحبك.. لا أحبك.. "
فتحت حقيبته لتضع كيس الحلويات فيها إلا أنها أحست بوجود مربع صغير في حقيبته سحبت ذلك المربع المخبوء بين طيات كتبه الجديدة لترى أنها صورتها ذهب بها للمدرسة .. سالت دموعها وانطلقت تطبع على جبينه قبلة وهي تقول: وأنا أحبك أيضاً يا جواد .