الدكتور/ محمد المحروس ... نموذجاً
ليس عيباً أن تكون ناشطاً حقوقياً وداعية من دعاة الإصلاح ... كما هم البعض منا.
وليس عيباً أيضاً أن تهتم بالأنشطة والأعمال الخيرية الدينية ... كما يفعل البعض منا.
كل ذلك بلا شك مما لا عيب فيه، وكل ذلك مما لا يدان ولا يعاب، تحت هذه العناوين العامة، ما لم تكن هناك أية ملابسات وحيثيات أخرى تحيط بالعنوان العام، فتحرفه عن مسارات الخير والصلاح والإصلاح.
لكن، لماذا الحديث هنا عن مثل تلك المواضيع، في موضوع لا تبدو له أية علاقة أصلاً ولا أية صلة، بأية أنشطة دينية أو سياسية، وكأننا قد خلطنا الحابل بالنابل، أو تعمدنا مزج القضايا المختلفة، دون وجه حق؟!!!.
في الحقيقة، مع توارد أخبار الإنجاز العلمي الذي أحرزه الصديق والزميل القديم، الأخ العزيز الدكتور/ محمد المحروس، الذي لم تتغير ملامحه الجسمية، التي عرفتها في السابق كثيراً، ولا همته وعزيمته كذلك، كما هو واضح، وكما يبدو، رغم تقدم الزمن بنا، هنا تعود بنا الذاكرة لتاريخ طويل، يعكس مسيرة أفراد من هذا المجتمع، مثلت تجاربهم وحياتهم مواضيع خصبة للموعظة واستخلاص أفضل العبر.
فلقد كانت المرحلة التي عشناها، وعاشها الدكتور/ محمد المحروس، زميلنا طالب المرحلة الثانوية في حينه، مرحلة ثورية مليئة بالصخب والضجيج والفعل الحماسي السلبي والغضب والاحتقان وردات الفعل العنيفة المشحونة بالعواطف والنشاطات الدينية والسياسية الحماسية الحادة، التي كان من السهل أن تجتذب إليها أفراد المجتمع أينما كانوا في هذا المجتمع الصغير، حتى لو كانوا صغاراً في السن، يقبعون على مقاعد الدراسة، لتبتلع جهودهم وإهتماتهم ونشاطاتهم.
ورغم أن البعض منا، كان مشغولاً فعلاً بالدراسة وبهمومه وتوجهاته العلمية الخاصة به فحسب، التي جعلته بعيداً تماماً عن أي نشاط سياسي أو ديني، لكن ذلك لم يشفع لهؤلاء في تلك المرحلة، ليحظوا بالنجاة من تلك الزوبعة، فاستطاع ذلك الحراك القوي والعنيف، أن يختطف مثل هؤلاء أيضاً، وأن ينتزعهم من مقاعد الدراسة، كما تفعل تلك الثقوب السوداء خارقة القوة، المعلقة في سقف سماء هذا العالم، مع فوتونات الضوء السابحة بسرعة هائلة في الفضاء الكوني، حين تختطفها وتسحقها. وكان ذلك الارتهان السلبي ربما، قدر المجتمع، وقدر كثيرٍ من أفراد ذلك المجتمع في حينه، في مجتمع شاءت الظروف والأقدار من خلال معركة الحياة الصعبة والمعقدة وصراعاتها أن يكون هكذا.
في ظل تلك الظروف، التي يعرفها ويفهمها كل من عايشها، بقي الشاب محمد المحروس هذا، منغمساً بقوة في المسار العلمي الذي اختاره لنفسه، ليختلف في مساره هذا كثيراً، عن مسارات بعض أولئك الشباب اليافعين المتحمسين، ممن انغمسوا في السياسة، أو في النشاطات الدينية الحماسية، في تلك السن المبكرة جداً من حياتهم، وكذا عن مسارات أخرى أختارها أولئك المراهقون الآخرون الذين انحرفوا وانجرفوا بفعل الشهوات والأهواء وتضليلها، ناحية المزالق الأخلاقية الخطيرة.
وفي ذلك الحين، كانت ثانويتنا، وهي: (مدرسة القطيف الثانوية)، تطبق نظام التعليم المطور، وهو نظام سمح في حينه للطلاب باختصار المسافة الدراسية - الثلاث سنوات، عبر برامج الصيف والدراسة الصيفية -، ولأن صديقنا محمد المحروس هذا، كان قد اختار مسار الدراسة والعلم، وصب جل جهده واهتمامه ضمن هذا المسار، فقد استطاع أن يستفيد من تلك الفرصة في تلك المرحلة، ليتخرج من المرحلة الثانوية، في سنتين دراسيتين ونصف فقط. وأنا لا أعلم ولا أتذكر اليوم أبداً، أن أحداً آخر من زملائنا في تلك المرحلة، قد قام بمثل هذا الجهد، فأقدم على مثل هذا الاختيار الموفق، وحقق مثل هذا التميز، - والله أعلم -.
ولقد تخرج زميلنا محمد، وانقطعت أخباره عنا، منذ مدة طويلة من الزمن، وكانت هذه سنة الحياة طبعاً، فذهب كلٌ منا في سبيله في هذه الحياة، رغم ما بقي في الذاكرة من ذكريات، ثم عادت أخبار هذا الصديق أخيراً، في الفترة الراهنة، وهي أخبار مفرحة للجميع بالطبع، لتؤكد لنا ولتثبت لنا وللجميع، أن محمد المحروس هذا، قد اختار فعلاً السير في المسار الصحيح، فنأى بنفسه عن كل الشواغل المدمرة، منذ ذلك الزمن، ولازال كذلك.
نعم، هكذا هو الحال بالضبط، وهذا هو ما جرى، وما يجري في هذه الحياة. فشبابٌ صرفوا أو يصرفون، جل أعمارهم وطاقاتهم وجهودهم وأوقاتهم، في الدراسة وفي اكتساب العلم والمعرفة، وشبابٌ آخرون أفنوا أو يفنون، جل جهودهم وطاقاتهم وأوقاتهم، في مسارات أخرى. أو ربما قدرت أو تقدر عليهم الحياة الثورية والدينية أو الغريزية، المسيطرة، مثل ذلك، ومثل تلك الاختيارات الأخرى. وأنا أستحضر هنا تجربة أخينا وزميلنا الدكتور/ محمد المحروس، تلك، لأؤكد أمام الجميع، خصوصاً شباب ومراهقي هذا اليوم، على نصيحة قديمة حديثة، كنت ولازلت مصراً على تكرارها وتقديمها للأصدقاء، منذ زمنٍ بعيدٍ، ومنذ سنوات عديدة طويلة، مراراً وتكراراً. فكثير من تلك الأنشطة السياسية، وكذا تلك الأنشطة الدينية، التي قد نحسبها اليوم، غاية الحياة ونهايتها وأفضل ما يمكن فعله فيها، وتقديمه لما بعدها، ليست سوى أوهام وسراب وخدع، تستهلك جهود أفراد الشباب وجماعاتهم، وتحطم أعمارهم وآمالهم وطاقاتهم، دون فائدة تذكر، وهذا ما يوجب علينا بالتأكيد الحذر منها، بلا شك.
وهذا، لا يعني أنني أتنكر لكل فوائد النشاط السياسي، وكذا النشاط الديني. لكنني أحاول هنا فقط، أن أضع إصبعي، على مأزق بعض أولئك الشباب الثوريين والعاطفيين، الذين تورطهم أقدارهم أو إرادتهم أو ثقافتهم أو غرائزهم أو حماستهم أو كلها مجتمعة، في مسارات دينية أو سياسية حماسية جاهلة ... أو غيرها، فتضرهم وغيرهم أكثر مما قد تنفع، فتهلك ثروة البشرية والمجتمع ورأس ماله وأصل وأساس وقاعدة نهضته وتحضره وتقدمه. ولو شئت، لحددت لكم هنا بالأسماء، تلك الأنشطة والممارسات الضارة، لكنني سأترك ذلك لحكمتكم وحنكتكم، التي تنتظرها الحياة الناجحة منكم.
والكلام هنا بالطبع، ليس للوم أو التقريع أو التأنيب أو التذكير بالماضي وما فيه أو ما تم فيه. فالحياة فيها الكثير من تلك المثالب والملابسات والعقد والتداخلات المربكة، التي يتوجب فهمها واحترامها ومعذرة المتورطين فيها وبها. ونحن هنا لذلك، إنما نريد الحديث عن الحاضر والواقع والمستقبل، من أجل واقعٍ أفضل، ومستقبلٍ مشرق، لا عن غير ذلك، ولذا فالكلام هنا تثقيف وتوعية وإصلاح وتنوير ... فحسب، وهذا ما أتمنى أن يفهمه الجميع هنا.
وهنا، فإنني أقول بوضوح تام، أن من يريد أن يخدم مجتمعه وأمته وإنسانيته، بتدمير نفسه، فإنه إنما يخلق مشكلة، بدلاً من أن يوجد حلاً. أما من يركز على تطوير وبناء ذاته وصناعة الكفاءة العالية والقدرات المتميزة، فسيكون مؤهلاً في النهاية لخدمة دينه وعقيدته ومذهبه ووطنه ومجتمعه وأسرته ونفسه ... الخ، على أحسن وجه ممكن، وسيكون قادراً في النهاية بلا شك، على أن يقدم للبشرية جمعاء أفضل الخدمات.
وهذا، لا يعني - مجدداً - أن النشاط الديني، ولا كذلك أن النشاط السياسي الجماهيري والشعبي، دائماً سلبي وتدميري، لكنه (في الحقيقة والواقع غالباً) في واقعنا المريض هذا، للأسف كذلك، وهذا ما يجب التنبيه له بشدة. وذلك طبعاً، لأن ذلك النشاط غالباً ما ينطلق من العواطف الجاهلة والتخبطات وقلة الوعي، لا من قواعد المنطق والواقع والنضج والفهم الصادق والكامل، أو المناسب والملائم.
ولذا، فمقولاتنا لا تأتي هنا، إلا تحذيرية، وإرشادية تنويرية. فتحذيرية، لأنها تنبه من جهة، من خطر ذلك الفعل والنشاط الديني والسياسي العاطفي والانفعالي الحماسي السلبي، المدمر، والمورط للفرد والمجتمع. ومن الجهة الأخرى، توجيهية، لأن هدفها أن تكشف أن كثيراً مما ننشده، وينشده كل إنسان سليم الفطرة، من الإصلاح والترقي والنهوض والخلاص، الفردي والاجتماعي، يمكن أن يأتي في الحقيقة والواقع، من مسلك آخر، يغفله ويتجاوزه الكثيرون منا، وهو غير تلك المسالك المألوفة العاطفية الحماسية الانفعالية، وهو مسار ومسلك بناء الفرد لنفسه وتطويره لذاته وصناعته لمجده، ومن ثم بالطبع، مجد الأمة ورقيها وتحضرها.
إن مقاعد الدراسة، وأروقة المصانع والجامعات، ومراكز الأبحاث العلمية، وممرات الدوائر السياسية، ليست في الحقيقة، أقل قداسة من محراب الصلاة، ولا من منبر الجمعة، ولا من الحلقات ولا الدروس ولا الاحتفالات (الدينية) ... الخ، بل على العكس من ذلك، فقد تكون تلك المواقع، هي الأقدس عند الله من ذلك كله.
وإن مثل جهود الدكتور/ محمد المحروس، وبعيداً هنا عن تقييمنا لطبيعة انجازه العلمي الحالي - الذي حظي بالتقدير العلمي والرسمي، والاهتمام العام -، في مجال مكافحة الميكروبات وقيمته، وهو إنجازٌ بلا شك - إن شاء الله - مهم جداً وقيم، بشهادة تلك المراكز العلمية التي شهدت بذلك، فإن ذلك، ومثل تلك الحالات، من الجهود الطويلة، ومن الإصرار في الجد في السير في المسار العلمي والبناء الذاتي، المؤدية في النهاية للوصول لحالات الإبداع والإنتاج والفاعلية، من شأنها أن تنقذ وتسعد وتحفظ أرواح وحياة وصحة بعض - على أقل تقدير -، بل ربما عشرات، وربما مئات، وربما آلاف، البشر، وربما أكثر من ذلك بكثير، من دون تفريقٍ طبعاً، بين إنسان وآخر، ومن دون نظرٍ لجنس، ولا دين، ولا لون. فأي عملٍ إنساني أو ديني، أعظم وأرفع وأسمى وأقدس وأروع، من مثل ذلك العمل والنشاط، الراقي والنبيل؟!.
هكذا هي صورة تلك المسارات والخيارات، الحسنة والإيجابية، والسيئة والسلبية، ونحن قادرون بالطبع على الاختيار منها. وإنه وإن تعددت تلك المسارات الإيجابية، في الأروقة العلمية والأكاديمية والفكرية والاقتصادية والتجارية ... الخ، فالصورة ستبقى هنا واضحة تماماً، لمن يريد الاختيار. فهي تتلخص بقوة، في كونها التركيز على بناء وصناعة الأفراد، وفي نجاح الذات، وفي تحقيق تلك الذات لهوية علمية وعملية واقعية فاعلة. فذلك هو، ما سيفيد وما سينفع، الفرد والأمة والبشرية معاً.
وإذا كان البعض منا، قد أخطأ في الماضي، بسبب ظروف مرحلة قد مرت، فيجب أن نستفيد وأن نتعظ من تلك التجربة أو التجارب الماضية، بأن لا تتكرر منا نفس تلك الأخطاء، وبأن نصنع أنفسنا، وأن نحقق ذواتنا، وأن لا نركب كل موجات السياسة دون وعي حقيقي منا، وأن لا نسمح بأن تستهلكنا قناعات دينية زائفة غير حقيقية خادعة ومدمرة ومحطمة، يلقيها الآخرون لنا أو علينا.
وفي النهاية، فإننا إذا أردنا أن ننظر لشيءٍ ما، في هذه الحياة، ببصيرة وواقعية ووعي، فإن علينا أن ننظر للخاتمة والنتيجة، الواقعية المرجوة في كل أمر. فكثيرٌ من تلك الأشياء الملتبسة علينا في حياتنا اليوم، يمكن أن تعرف من خلال خواتيمها ونتائجها ... وهكذا والسلام.