الشيخ محمد تقي المعتوق ..... الورد والنافلة
بالأمس القريب ودعنا رفيق دربك وصنو روحك الطيبة، الشيخ المرهون•، في لوحة فسيفسائية مبدعة تآزرت فيها خيوط الشمس فكانت ملء السمع والبصر. وهانحن اليوم نعيد رجع صدى الرحيل مرة أخرى، لنرفع بعدها الستار عن آخر مشهد من فصول رواية الرواد في المشهد الثقافي الاجتماعي القطيفي، ولنستمع من جديد لطائر القدس وقد أقبل من ناحية الغري بعصابة خضراء، لينثر نفحة من طيبها العلوي، ويرتل ما تيسر من درس الفقاهة ورحلة السير والسلوك في رحاب مدارس الآيات ومواطن المعرفة.
كل ذلك في حركة متسامية لفوج ملائكي هادر تداعى في مشهد جنائزي قمين بما هو أهله ليكتب كلمة، ويسجل موقف.
رحيل الجسد لا يعني طمس الآثار
بل ولادتها والنشور ...
وترجل الفارس ... لايستلزم سقوط الراية
كما النخلة ... تغادر وقامتها سامقة
تعانقها السماء
فترفع الدعاء
وتستضيف ... بشوقها النسور
كذلك القيم
كذلك القمم ...
بين الأمس واليوم أيها التقي المعتوق ... وهجاً متألقاً من الحب والسكينة والاطمئنان، ودوحة من عنفوان انتصار قيم الدين ومنظومة المثل والأخلاق - برغم صالية الجمر من الحزن ولوعة الفراق - لينقش على طول خط مسرى العروج بمعية كل خطوة وكل تكبيرة وتهليلة ترتسم على صفحة الزمن أن التجارة الرابحة هي تلك التي تستمد ديمومتها من تراب الأرض المروي من عرق جبين التواضع، وسر حكمتها الخالدة العيش في الناس ومع الناس فلايستهويها مجلس دون مجلس أو لقب دون آخر لمعرفتها أن رفعة الشيء وسموّه مرتبط أولاً وبالذات بمدى القرب والبعد عن ساحة المولى سبحانه، فتصير عندها إذ ذاك جميع المواضع ذات شأن مادامت بعين الله تصنع، وماعداها من زخرف القول فهم عنه في شغل.
هكذا عَرِفتما وخبركما الناس، تأخذان بأيديهم نحو المقام المحمود لعنوان لين العريكة، وحسن الحديث الجامع لشرائط الدخول في حرم أداء حق الواجب بين الناس كافة، بضاعتكما المزجاة عمة بيضاء تحكي الالتزام بمقتضى الدور والوظيفة، وابتسامة ندية تتكسر عند عتباتها هواجس الرهبة، ويد عُجنت طينتها ببسط السلم والسلام. آخذة بعزم إرادة التوفيق في هذا المسير، جادة الورع وعرين الاحتياط. جمعت بينكما الأخوة في الله، والاعتصام بحبله، والمودة لأهل بيت نبيه فتجلت فيها ﴿ كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾ [إبراهيم:24-25] فلا غرابة أن جذبت بينكما ألطاف القدرة فكنتَ " المعتوق " من قيود المنع، وهو " المرهون " بكأس الملاطفة، وبين الإنعتاق والارتشاف، تسابيح من نعيم شتىّ ﴿ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ ﴾ [الفتح: 29]
بين الأمس واليوم ... تجليات لمقامات أُخر تسامت فتدلت قطوفها ذات اليمين وذات الشمال تنسج من خمائل الدموع، وهجير الزفرة، مسك الاعتصام المعقود بنية إدراك السيرة، بوعي إكمال المسيرة.
أجل أيها التقي العارف كان يوم التوديع، برهان صدق، وعنوان قصد متألق، لكل تلك الأيدي التي تناولت بأطراف أصابعها حمائل النعش، وكلها يقين بأن لهيب الصيف وشمسه يزيد من أوار عشق تجديد العهد والبيعة لمشروع صياغة الإنسان فقط الإنسان ولا شيء سواه. فساعة التوديع هي عينها ختم التوقيع لبداية مشوار الكدح. إنه العزف الذي تناوبت على وقع ترانيمه جباه خرت ساجدة لربها فكانت محلاً للطف شمولها ضمن الملبين في هذا المسعى. فاغتسلتْ وشربتْ من نمير يدك المباركة خلوص العمل، مبصرة لطريق مهدته طيلة سني عمرك الشريف بالهداية والرشاد ، تنثر بين أيديهم مرة مطلباً فقهياً، وتارة أخرى لجانب من معارف العلماء وحالاتهم مما شهدته أو نقل إليك من غير واسطة. فينبلج من بين أعطافها الفجر الصادق لما رمته من فائدة أدبية، أو نكتة أخلاقية، أو عظة معنوية وأنت في جميع ذلك ﴿ الْقَوِيُّ الْأَمِين ﴾ [القصص:26] فأينعتَ فيما تبث وتنشر دلالات القدوة الحسنة بين أبنائك وعارفيك ومرتادي ناديك ومحضرك، فطريق ذات الشوكة لميدان المجاهدة وتربية النفس ورياضتها هي أمر تصديقه أسهل من تصوره، وهو ما اقتحمتَ فتح بابه بخلق رفيع، وسجية طاهرة، وسريرة نقية، وأبوة حانية لم يشغلك رسم الحرف عن تزكية الباطن،والأخذ بيد المريدين، دليلك ومرشدك لهذه الرحلة " حُسن الخُلق أفضل الدين " و " مَنْ حسُنت خليقته، طابت عِشرته " ، و " مَنْ حسُن خلقه كثر محبوه، وأنست النفوس به " بناء قوامه وبسملة ( فاتحته ) " احْصُدِ الشَّرَّ مِنْ صَدْرِ غَيْرِكَ بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِكَ " فـ ﴿ سَلامٌ قَوْلا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ﴾ [يس: 58] هكذا بدت لك الأشياء – أيها الشيخ التقي - كما هي، فاخترت أن تجمع بين الفضيلتين ( التحليّ والتخليّ ) بهدي وبصيرة لتبقى دوماً أيها البازغ من فجر الحب حيث ما كنت الوِرْد والنافلة.