الشيخ محمد تقي المعتوق حاضن الجميع
بسنواته التي قاربت المائة، رحل الشيخ الكبير، الشيخ الذي حمل معه وطوال تلك العقود من الزمن عقلاً راجحاً، وذاكرة موصومة، حتى أصبحت مرجعاً للكثير ممن يتقاطرون لمجلسه، فتستهويهم أحاديثه، وقصص الأجداد والعلماء، التي يرويها لهم، وهو الذي لازمهم وتتلمذ على أيدي الكبار منهم.
والشيخ محمد تقي المعتوق (1336 - 1432) هو بحق الشيخ (التاريخي) بعمره، وبسيرته النقية التي ابتدأت مع أبيه العلامة الشيخ سلمان المعتوق (توفي سنة 1358)، ومع عمه الفذ، العلامة المرجع الشيخ عبد الله ابن معتوق (توفي سنة 1362) حيث لازمه لأكثر من عشرين سنة وذلك بعد وفاة والده، حيث كان تتلمذه على يديه، وهو أفضل ما يمكن أن يكون لرجل في بداية عمره، وفي زمن كان للتخلف من جهة، والفقر المدقع من جهة أخرى دورهما.. فقد اختار الشيخ محمد تقي المعتوق حينئذٍ طلب العلم كما كان أبيه وعمه، لذا كانت بدايته من بلدته تاروت حيث تعلم القراءة وحفظ القرآن الكريم على يد الحاج محمد الطويل وأتم ذلك قبل أن يصل إلى سن الحادية عشرة من عمره. ليواصل بعدها دراسته لمقدمات النحو على يد العلامة الشيخ علي بن يحيى التاروتي.. ومما يذكر عن نبوغه في هذه الفترة أنه حفظ خمسة أجزاء من القرآن الكريم خلال خمس سنوات, بينما حفظ أجزاء القرآن الباقية كلها في خمسة أشهر فقط.
بعد ذلك وكبقية أبناء الطائفة الشيعية، غادر الشيخ المعتوق (رح) إلى النجف الأشرف سنة 1374هـ. حيث تكفل سماحة آية الله العظمى السيد محسن الحكيم آنذاك برعايته، لما كان يعرفه عن نسبه وما علم من كفاءاته الشخصية ومواهبه التي تؤهله للتحصيل العلمي.. بينما أبدى آية الله السيد باقر آل الشخص اهتمامه الصادق بتوجيهه في دراسته، لما عرفه من سمعته ومقامه الكبير عند عمه الشيخ عبد الله وعند وتلاميذه وأنداده من علماء القطيف والأحساء.. وهكذا استقر بشيخنا المقام في النجف الأشرف وواصل دراسته وفق نظام الحوزة العلمية المتعارف عليه على يد جملة من علمائها وأساتذتها المعروفين.
فكان أن تتلمذ على يد علماء كبار من أمثال العلامة الشيخ حسين الزائر آل دهام, وفضيلة الشيخ خضير الربيعي, وأية الله الشيخ مرتضى آل ياسين، وآية الله السيد محمد جمال الهاشمي. إضافة إلى دراسته المتجزئة السابقة على يد كل من السيد ماجد العوامي والشيخ علي بن يحيى التاروتي.
ولعل ما ميز تلك المرحلة من الدراسة ومن التواجد في النجف الأشرف هي إقامة العلاقات الواسعة بالعديد من الشخصيات المرجعية والعلمية البارزة، مثل: آية الله السيد محمد تقي آل بحر العلوم, وآية الله الشيخ عبد الرسول الجواهري, والعالم المجتهد الشيخ محمد تقي الجواهري، والسيد محمد جمال الهاشمي, والشيخ محمد تقي الواعظ الخراساني, والسيد علي آل شبر والشيخ محمد علي الخمايسي. وغيرهم.
وكانت علاقته بهؤلاء جميعاً أكثر من علاقة تلميذ بأساتذته أو زميل بزملائه، إضافة إلى صلته الوثيقة بسماحة آية الله العظمى السيد محسن الحكيم وسماحة آية الله العظمى السيد مهدي الشيرازي وآية الله العظمى السيد محسن الحكيم، وقد مكنته علاقته بالأخير بوجه خاص من تقديم الكثير من الخدمات للزائرين والطلبة القاطنين من أهالي القطيف وغيرهم، ولاسيما حين أصبحت المرجعية العليا في التقليد عند الشيعة للسيد الحكيم، وأصبح الغالبية من أهالي القطيف من مقلديه، فكان شيخنا الجليل يتوكل عن السيد الحكيم في كثير من الشؤون التي تخصهم، ويعرفه بوجهائهم وأهل الفضل منهم، ويتوسط في قضاء حاجاتهم ولوازمهم. بينما كانت داره في النجف مقصداً لهم، وكان مجلسه العامر ملتقى لكثير من شخصياتهم العلمية ورجالاتهم ومكاناً لهم للتعرف إلى من كان يرتاد هذا المجلس من العلماء والأدباء والفضلاء من العراقيين وغيرهم. ويشهد بذلك كل من زار النجف الأشرف أو قطنها من أهالي البلاد في أثناء وجود سماحته فيها.
ومع عودة الشيخ المعتوق إلى بلده في مطلع التسعينيات الهجرية من القرن الماضي أصبح يقوم بوظائفه الشرعية كوكيل شرعي لأغلب مراجع الشيعة. وكان يقوم بهذه الوظائف على أكمل وجه في مجلسه العامر وخارجه، فيجيب على المسائل الدينية والعقدية، ويقوم بمهام الإصلاح والتوفيق بين المتنازعين، ويدعو إلى الخير ونبذ المنازعات، ويهتم بطلاب العلوم الإسلامية ويمدهم بكل ما يحتاجونه من أشكال العون والمساعدة، ويحث على احترام الملتزمين منهم، ويجري لكثير من المعوزين منهم ومن كافة أهل البلاد رواتب شهرية، كما يشارك في رعاية الأيتام وتزويج المحتاجين وفي الكثير من الأعمال الخيرية والإصلاح الاجتماعي على قدر ما أوتي من إمكانات وما يتوافر لديه من الحقوق الشرعية المخول في صرفها على مستحقيها.
حيث كان وكيلا لأغلب مراجع الشيعة من السيد محسن الحكيم, والإمام الخميني, والسيد أبو القاسم الخوئي, والسيد عبد الأعلى السبزواري، والشيخ مرتضى آل ياسين, والسيد الكلبيكاني, والشيخ الآراكي, والشيخ ناصر المكارم شيرازي, والشيخ فاضل اللنكراني, والشيخ لطف الله الصافي, والشيخ حسين الهمداني, والسيد مهدي المرعشي, والسيد علي السيستاني, والشيخ محمد جواد التبريزي, والسيد علي الخامنئي. والسيد محمد سعيد الحكيم، والشيخ محمد رضا الطبسي, والسيد أحمد المستنبط.
ولعل ما ميز الشيخ محمد تقي المعتوق (رح) هو احتضانه الكبير لكافة الشرائح والتوجهات الدينية، وهو ما جعله محط إعجاب الكثيرين الذين استهواهم بفكره وأخلاقه وسعة قلبه للجميع. حيث تحدث الشيخ حسن الصفار في مجلس عزاء الفقيد الراحل عن مميزات الفقيد الراحل ومنها: "بذل المحبة وإفاضتها على الناس من حوله، حيث كان مع جلالة قدره وكبر سنه، يتواضع للصغير والكبير، ويبدي الاحترام والتقدير للقريب والبعيد، ويتفقد كل من تعرّف عليه والتقى به، وكان مجلسه عامرًا بالزائرين من مختلف الطبقات والتوجهات، الذين يشدهم إليه إغداقه المحبة عليهم، والاسترسال في الحديث معهم، بتوضيح المعارف الدينية، ونقل القصص النافعة من تاريخ المجتمع، وسير المراجع والعلماء الأفذاذ، حيث كان الفقيد الراحل موسوعة من التاريخ والذكريات، وكان يتمتع بذاكرة حادة لازمته إلى آخر عمره الشريف الذي قارب المئة عام".
وفي الختام ونحن نستحضر تلك الشخصية "التاريخية" الكبيرة، لابد أن نستلهم منه رحمه الله حرصه على الانفتاح والتواصل مع جميع المرجعيات الدينية والتوجهات في الساحة الشيعية، ورفضه لأي موقف سلبي من أي جهة، وهو ما جعله يحظى باحترام وتقدير الجميع ويكون بحق قلب العلماء النابض وحاضن الجميع.