الرواية السياسية وسقوط النخبة
"التاريخ لا تملكه النخبة، وبالتالي لا يفترض أن يُكتب من وجهة نظرهم فقط"، ص7. هذا ما يردده الناقد محمد العباس في مفتتح كتابه "سقوط التابو.. الرواية السياسية في السعودية"*. وأقول: والأمر نفسه يجري على الرواية، إذ لا يصِّح أن ترتفع عقيرة كثير من النقّاد وكُتَّاب الصحافة؛ ليغمزوا بين سطورهم على من يلج عالمها الرحب!
وأشاطر العبّاس رأيه حين يقول في كتابه إن "أغلب الروائيين بالغوا في تطعيم رواياتهم بلقطات سياسية لتعزيمها بمضامين جاذبة، وإضفاء طابع الإثارة فقط، وليس من منطلق توظيف فني للأحداث السياسية أو شخوصها" ص9.
وغير خافٍ على القارئ أن المقتل الذي وقع فيه من يكتب الرواية السياسية في السعودية أنه تبنَّى الرواية الرسمية للدولة ضد المناضلين، ليجعل "من روايته مجرد ملحق تفسيري لما تبثه الآلة الإعلامية"، ص13.
وكان حريًّا بالروائي أن يبعث فينا شخصية البطل المناضل الذي ينافح عن قيم: الحرية والتعددية والعدل والمساواة.. البطل الذي لا تثنيه السياط وأقبية السجون، لكي يتنازل فيما بعد عن قيمه التي آمن بها ذات نضال!
وإذا كانت "الرواية السياسية في السعودية مذعورة. وهو واقع إبداعي يمكن تفهم أسبابه لأنها في الأساس منبثقة من بيئة خوف"، ص16، كما يقول العبّاس، فإننا نشهد في هذه المرحلة كتابات صريحة وجريئة -وإن كانت ضئيلة- لكُتَّاب بعضهم لا زالوا يعيشون بيننا، وآخرون التحقوا بالرفيق الأعلى، كما شهدنا قبل أيام صدور كتاب: "الحركة الوطنية في السعودية"! للمناضل الراحل سيد علي بن السيد باقر العوامي، وهو بلا شك مادة ثريّة، ستعين من يعمد لكتابة الرواية السياسية في شرق السعودية تحديدًا.
ومن الطريف أننا أمام "جيل يكتب وينشر كل ما يخطر بباله مقابل جيل لم يدّون شيئًا من ذاكرة أفراده أو تاريخه الجمعي، مهما كانت ذكرياته على ذلك القدر من الأهمية والخطورة"، كما هي إشارة محمد حسن العلوان في "طوق الطهارة". ص41.
لذلك أقول مؤكدًا ومحرضًّا على ضرورة أن ينشغل أصحاب التجارب فينا على الإسراع بكتابة تجاربهم الثريِّة؛ لنقرأها على شكل روايات، وليس بالضرورة أن تتكئ الرواية المكتوبة في المراحل الأولى/التوثيقية، على البناء الفني المتقن والسبك الفاتن! فنحن بحاجة لقراءة رواية تبعث فينا الحياة والكثير من الأمل بدرجة أولى.
ولعلّ أسوأ ما في الروايات السياسية التي كُتبت بأقلام نخبة من الروائيين السعوديين، أن معظمها تنتهي بتوبة أبطالها "وكأن معظم الروائيين لا يحبون أبطالهم"! ص18.
ففي رواية "عين الله"، يتم تحويل البطل إلى إنسان تائب عن جرمه، وتحويله إلى نموذج للهداية بشكل فارط في الوعظية. ص99.
كما بالغت بعض الروايات في كيل المديح لأبطالها، كما صنع تركي الحمد في "أطياف الأزقة المهجورة"، حين جعل من "هشام العابر"، صاحب خوارق فكرية وذكاء لا يُعلى عليه، بالرغم من حداثة سنه! قبل أن يدخل "الكراديب"، ويكفر بالنضال!! بينما كان بطل "عين الله"، بدر الشراجي، محدود الوعي والقدرات ومخدوعًا بخيارات الجهاد!!
ويبدو أن الرواية السياسية السعودية على كثرة ما يؤخذ عليها، إلاّ أنها استطاعت أن تضِّخ مفاهيم مهمة على صعيد التأسيس لمجتمع مدني تسوده قيم الحرية والعدل، وحاولت أيضًا رسم صورة جميلة، لشكل الوطن القادم والمفترض! وفي المقابل وجدنا "معجب الزهراني"، في روايته "رقص"، يُمَجِّد "الملكية الدستورية"، ويمرر علينا خيارها، مقابل أنظمة الحكم الجمهورية التي يستبد بها العسكر!
وكأن الروائي السعودي، يريد من القارئ أن يؤمن بخيار: "ليس بالإمكان أفضل مما كان"! أو "مكانك سر"! لذلك عليكم -يا معاشر القرّاء- التفكير بقوت يومكم فقط! ليبقى حال الرواية السياسية لدينا مضطربًا يشي بالتغيرات الكبيرة التي يعيشها من يكتبها، بعد تحول مساره من مناضل إلى مهادن! من ثائرٍ إلى خانع؛ ليمرر علينا -فيما بعد- مقولاته النكوصية، بعد إعلانه لمشروع التوبة الصريحة، التي يُكَفِرُّ بها عن سنوات قضاها في الوهم والخديعة!
فالرواية السياسية إذًا، قدَّمت لنا صورة البطل المناضل على نمطية الإنسان المغرر به، الذي استتاب وعاد لممارسة حياته الرتيبة! وكأن من يطالب بحقه ويسعى جاهدًا في هذا المضمار هو ببساطة: إنسان ساذج!
ويبقى لنا بعض الأمل مع (هيفاء) في الرواية التي كتبها "سعد الدوسري"، إذ استمرت في نضالها كافرة بكافة أشكال السلطة، التي أغرت (سليمان)، عندما قالت لخالتها (سليمان ينتظرني بسيارته. اخرجي، وقولي له: هيفاء لن تعود معك)". ص37.